يوميات مريض الحلقة الثانية قطوف دانية وثمار غالية ..

1إن حديث نبي الله أيوب عليه السلام الذي ختمت به الحلقة الماضية من اليوميات؛ أصل شريف جليل القدر في فقه الابتلاء .
وهو أشبه ما يكون بشجرة امتلأت أغصانها بثمار حلوة طيبة، تغذي فؤاد المريض وتجمه ..
فهاك أخي المبتلى بعضها؛ قطوفا دانية، لا تجد فيها كلمة لاغية، تسكب في جوفك حلاوة تمحو مرارة الدواء، وتروي غليلك بسقيا تطفئ لهيب الأوجاع 2والأدواء .
وما أدراك ما أيوب ..
نبي من أنبياء الله، بعث بعد يونس عليه السلام.
قال ابن إسحق: كان رجلا من الروم.
وهو أيوب بن موص بن رزاح بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل.
وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام.
وامرأته من بنات يعقوب عليه السلام، قيل: اسمها “ليا”.
وقد شرف الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام؛ وجعله من الخمس والعشرين نبيا الذين ذكرهم سبحانه بأسمائهم في كتابه الكريم.
وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى: “إنا أوحينا إليكم كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب”
قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه; من الأنعام والعبيد والمواشي، والأراضي المتسعة بأرض الثنية من أرض حوران من أعمال دمشق.
وحكى ابن عساكر: أن حوران كلها كانت له.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه قصص الأنبياء:
“وكان له أولاد وأهلون كثير.
فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بهما.
وهو في ذلك كله صابر محتسب، ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس”اهـ.
قال السدي: “تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب”.
لا يلزم من الابتلاء الإهانة ..
لو كان الابتلاء دليل الإهانة، لما ابتلي هذا النبي الكريم ..
وفي كتاب الله ما يؤصل لهذا المعنى؛ قال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 – 17]
قال العلامة السعدي: “يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه يدل على كرامته عنده وقربه منه، وأنه إذا {قدر عليه رزقه} أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل منه، أن هذا إهانة من الله له، فرد الله عليه هذا الحسبان بقوله {كلا}.
أي: ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل”اهـ. [تيسير الكريم الرحمن]
ثمان عشرة سنة ..
وهو الراجح في عدد السنين التي قيل بأن نبي الله أيوب عليه السلام مكثها في ابتلاءه …
وهذه مدة طويلة وزمان ممتد، وكان عليه السلام مستعدا لصبر أضعافها:
قال السدي: “كانت امرأة أيوب تأتيه بالرماد تفرشه تحته، فلما طال عليها قالت: يا أيوب; لو دعوت ربك لفرج عنك.
فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحا، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟
فجزعت من هذا الكلام”.
إنه صبْر من انقلبت مرارة الصبر في جوفه حلاوة، وأضحت شدة البلاء في حقه رخاوة وطلاوة ..
ومن هنا نفهم ما رواه ابن عساكر عن مجاهد أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء”.
والغريب أن النبي المبتلى صبر، بينما نفذ صبر صاحبه الذي لم يستوعب الحكم والأسرار كما استوعبها أيوب عليه السلام.
حكم وأسرار ..
لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يباهي الملائكة بعباده الواقفين في عرفة ..
وفي الوقت الذي نؤمن فيه بأن أسماء الله وصفاته وأفعاله موقوفة على الخبر؛ فإننا نجد في النصوص ما يدل على حب الله تعالى لمن أنعم عليهم فشكروا أو ابتلاهم فصبروا، وأنه سبحانه يذكرهم في الملأ الأعلى ويثني عليهم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض”. [متفق عليه]
وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة” [متفق عليه]
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: “عبدي إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم وأكبر”. [رواه البيهقي وصححه الألباني]
وعن معاذ بن أنس مرفوعا قال الله تعالى: “لا يذكرني عبد في نفسه إلا ذكرته في ملأ من ملائكتي، ولا يذكرني في ملأ إلا ذكرته في الرفيق الأعلى” [رواه الطبراني وحسنه الألباني]
فكيف بمن ابتلي فصبر وذكر الله ذكرا كثيرا؟؟
وكأني بأهل الابتلاء الصابرين الراضين؛ قد ذكرهم الله في الملأ الأعلى وباهى بهم ملائكته، ورضي سبحانه أن يراهم يقابلون البلاء بالرضا، ولا يزيدهم اشتداد البلاء إلا إيمانا وتسليما ..
وما ظنك بقلب لامست شغافَه هذه المعاني الجليلة، وخالطت مهجته هذه الحقائق الشريفة؛ لا شك أنه يجد للصبر لذة وللرضا نشوة ..
فلا جرم أن قال أيوب: “هل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟”
فاللهم أكرمنا بقلب صابر ولسان شاكر ونفس راضية مطمئنة.
وهذا المعنى مما يدخل في قول نبينا عليه السلام: “.. ولمن ابتلي فصبر فواهاً” [رواه أبو داود وصححه الألباني]
قال العلماء: “قوله “فواها”: بالتنوين؛ اسم صوت، وضع موضع المصدر، سد مسد فعله، معناه التلهف، وقد يوضع موضع الإعجاب بالشيء والاستطابة له؛ أي: ما أحسن وما أطيب صبر من صبر، وقيل: معناه فطوبى له”اهـ
قال الطيبي رحمه الله: “ويجوز أن يكون (فواها) خبرا لمن، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، فعلى هذا فيه معنى التعجب؛ أي: من ابتلي فصبر فطوبى له”اهـ

—————————-
1- وهو من أحاديث كتابي: “الأربعون في فضل الابتلاء”
2- لا يفهمن قارئ مما أكتب أنني أعاني أو أكابد، وإنما أتحدث من خلال مشاهدات لأحوال المرضى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *