مهمة الحركة السلفية في المغرب حسن السائح

“الحركة السلفية كانت عاملا من عوامل التطور العقلي في الشعوب الإسلامية، وكانت مركز عمل وتوجيه، كما أن معارضتها للتيار الغربي خلق في تفكيرها ذبذبة جديدة وطاقة قوية كانت سببا في هذا النشاط العميم الذي غمر العالم الإسلامي”.

لم تنجح أية حركة دينية فكرية في العالم الإسلامي نجاح الحركة السلفية، هذه الحركة التي انتشرت في الشرق أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكانت لها جذور تاريخية ترجع إلى ما قبل هذا القرن بكثير.. وتعتبر دعوتها بحق عاملا أساسيا في اليقظة الإسلامية الحديثة التي قاومت التنصير وكافحت ضد دسائس الاحتلال.. ولولا لطف الله ثم هذه الحركة لهان على الغرب أن يستعبد الشرق روحيا وفكريا إلى أمد بعيد، غير أن عزيمة أولئك السلفيين الأتقياء الذين استوحوا تعاليمهم من الحركة السلفية القديمة، والتي بدورها رجعت إلى الينابيع الأصيلة للفكرة الإسلامية حطمت نواياهم السيئة وأبادت آمالهم الفاسدة، وكانت هذه الحركة الجديدة من القوة بحيث استطاعت أن تخلق جيلا جديدا يعرف الإسلام كما هو، ويعرف في نفس الوقت مدى تربص الغرب بالإسلام والمسلمين ليوقعهم في حباله، ويسلخهم من مقوماتهم ثم يفصلهم عن حضارتهم.
…وإذا كنا اليوم نرى المسلمين استطاعوا أن يقفوا في وجه الغربيين وأن يبدعوا ويتفوقوا في شتى المجالات والميادين والمضامير فليس ذلك إلا بفضل الله ثم هذه الحركة المباركة التي خلقت جيلا جديدا يتفهم مقتضيات العصر ومطالبه.
…وتعتبر الحركة السلفية في الشرق جذوة شديدة الالتهاب تساقطت شظاياها في كل البلاد الإسلامية، على أن الشظية التي سقطت في المغرب الأقصى وجدت أمامها قرائح تلتهب حماسا وأفكارا تتأجج شوقا إلى تحرير الفكر المغربي، وكان القبس الروحي القداس الذي ألقته صحف السلفيين الشرقيين ومجلاتهم كفيلا أن يبعث العالم الإسلامي المغربي بعثا يتناسب والبعث الشرقي..
..إذا فالحركة السلفية كانت عاملا من عوامل التطور العقلي في الشعوب الإسلامية، وكانت مركز عمل وتوجيه، كما أن معارضتها للتيار الغربي خلق في تفكيرها ذبذبة جديدة وطاقة قوية كانت سببا في هذا النشاط العميم الذي غمر العالم الإسلامي.. ثم كان من مقاومتها لمكايد الغربيين أن اصطبغت عن غير قصد بلون جديد، وتأثرت بأنظمة الغرب وأساليبه فكانت أيضا عاملا في انتشال الفكر الشعبي الإسلامي من فوضى الإيمان والعمل، إلى نظام ووحدة عقدية قضت على الطرقية التي فرقت الأمة الواحدة طرائق قددا؛ وأقامت حربا عدائية تعصبية في صفوف المسلمين لا ترتكز على أي تنافر تقدمي مجد.
لقد عرف المغرب الحركة السلفية لما حمل الحجاج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى المولى سليمان الذي أعجب بها وحاول نشرها بالمغرب، فألف رسائله الإصلاحية، وانشأ خطبة أمر الخطباء بقراءتها على المنابر، ويحدثنا الزياني والناصري عن هذه الحركة بإسهاب لا محل لذكره هنا، ثم جاء عبد الله السنوسي من الشرق وكان أثريا سلفيا، واتصل بالمولى الحسن وحضر بنفسه دروسه بفاس، وكان السنوسي يدعو لإصلاح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية، ولما كانت دعوته أقوى من عصره ثار العلماء في وجه دعوته ورشقوه بسهامهم.
وجاء بعد هؤلاء محدِّث خطير ومصلح كبير؛ وهو الشيخ أبو شعيب الدكالي، وبدأ حركته السلفية في عهد المولى عبد الحفيظ، وساعدته ذاكرته القوية وحافظته الجبارة ولهجته المتناسقة أن يخلب الألباب ويحير الأسماع، فنجح نجاحا منقطع النظير وتبوأ منصب القيادة العاطفية والزعامة الدينية في هذه البلاد.
هذه مهمة الحركة السلفية قبل الاستقلال: مقاومة المستعمرين، وتطهير الفكر، والرجوع بالإسلام إلى عذوبة ينابيعه الأولى..
وقد أصبحت الحركة السلفية اليوم تواجه مشاكل أخرى، وهي في نظري أشد عناء من المشاكل السابقة، ذلك لأن أعداءها بالأمس كانوا يكيدون في وضح النهار؛ وهم اليوم يكيدون لها في ظلام الليل، كانوا من الوضوح والجلاء بحيث لا يتعذر على السلفية أن تقاوم في عنف اتجاههم وتكبح جماحهم وترد كيدهم، وكان من السهل عليها أن تكتل الجهود الشعبية لمقاومة هؤلاء الأعداء كما كانت الدعوة إلى التعبئة العامة لمناهضة المحطمين تجد آذانا مرهفة وقلوبا واعية، أما اليوم فهي إزاء مشاكل من نوع آخر، ولا أبالغ إذا قلت إن هذه المشاكل أخطر مما عرفته بالأمس، فليس من شك أن الشباب المغربي قرأ كثيرا عن فلاسفة الغرب وفلسفتهم المادية وتعرف إلى الحضارة الفكرية بطريقة منظمة، ثم لا شك أيضا أن هؤلاء لا يعرفون إلا نزرا عن حضارة الشرق الروحية، وهذا النزر الذي يعرفونه مشوه ومبتور، وأستطيع أن أقول أن هذا الشباب لو طرحت عليه مشكلة فلسفية تتصل بهذه المادة التي استظهرها في دراسة الفلسفة لكانت معرفته عميقة بالموضوع إن كان ماسا بالفلسفة الفرنسية، وسطحية إذا كان ماسا بالفلسفة الإنجليزية، ولكنها سطحية فيها احترام وتقدير لهذه الفلسفة، أما إذا كانت ماسة بالفلسفة الشرقية فمعرفته بها مشوهة لا تخلو من جهل وازدراء.. وهؤلاء يكونون خطرا على نهضتنا الجديدة لأنهم غرباء عن الفكر المغربي وإن كانوا من رحمه، وهم إنما يجارون التيار تزلفا، أو ربما جاروه مجاراة لا تخلو من استسلام وعدم اكتراث، وإذا قدر لهؤلاء أن يتكلموا عن الدعوة الروحية بصراحة فهم لا يقلون حماسا في النيل منها من أعدائها القدماء… وكيفما كانت الحرية الفكرية التي ندعو إليها ونرغب فيها فنحن لا نطمئن إلى حرية هدامة، وإذا كنا لا نتعصب لفكرة ما فنرجو أيضا ألا يتعصب هؤلاء لأفكارهم الخاصة…
ولا أحتاج للبرهنة على ما أقول بضرب الأمثلة وعرض الأشرطة، فيكفي أن تتحدث إلى شاب مغربي غربي الثقافة ليحدثك عن الإسلام بمثل ما تحدث به عنه هانتو وأمثاله؛ وما انتقده الغرب على الآراء والمعتقدات الإسلامية في القدر والقضاء والخلافة والحكم والعدالة مثلا، ثم لا يذكر لك شيئا عن موقف الإسلام من هذه الشكوك.
كفى بهذا حجة أن الشباب يتأثر بالأفكار الغربية أكثر من تأثره بالآراء الشرقية الروحية، ومعرفته بها على الأقل… والواقع أن المشاكل التي تواجه اليوم الحركة السلفية متعددة منها هذا النوع من الشكوك والريب الذي يمس جوهر الإيمان والغيبيات، ثم ما تحمل الحضارة الغربية المادية من تحطيم للقيم الروحية، وهذا النوع لا يجابه حركتنا السلفية وحدها بل يقف كابوسا أمام الديانات سواء في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو الجنوب.. ومن هذه المشاكل نوع آخر يواجه الحركة الإسلامية وحدها، ويظهر في هذه الرشقات التي يصيب بها فريق من الذين يمعنون في الحركة الإسلامية نقدا وتجريحا، ثم هذه النظريات التقدمية التي علينا أن نوفق بينها وبين مبادئ الإسلام حتى لا يشعر الشباب المسلم بهذا الاعتلاج في صدره بين عقله وقلبه، وهذا النوع نقتسم أعباءه مع إخواننا المسلمين في العالم الإسلامي أجمع، وأخيرا من هذه المشاكل نوع آخر يعترض طريقنا -ويجب أن نعترضه- ويظهر في هذا الإلحاد الذي ينبثق من صفوفنا؛ وهذا الشك القائم الذي يخيم على أفكار شبابنا والذي كان له أصل من جمودنا طورا؛ ومن الرواسب الاحتلالية مرة أخرى …
وكيفما كان الأمر فالحركة السلفية اليوم إزاء هذه المشاكل كلها، لن تستطيع أن تتنكر لها أو تمضي في صمت مغرق غير حافلة بهذه الأشواك التي تزرع في حقل الإيمان الطاهر، وهذه الشكوك التي تنبثق في مجال اليقين المطلق. فإذا كانت الحركة السلفية تحارب بالأمس عدوا أجنبيا نشاهده وجها لوجه فهي اليوم تحارب عدوا خفيا تنمو جراثيمه في الظلام… فلتكن الحركة السلفية اليوم أكثر استعدادا وأوفر مقومات لتكافح مستميتة؛ ولتنتصر اليوم كما انتصرت بالأمس..
ولن يكون هذا إلا بنفس السلاح الحاد ونفس الطريقة التي ينزع إليها الخصوم الألداء.. ثم لن يكون هذا أيضا إلا بثقافة واسعة، وإطلاع عميق ومعرفة دقيقة بمشاكل العصر ومطامح النشء وآمال الشباب.
دعوة الحق العدد:2؛ السنة:1؛ الصفحة:21
اختصره: أحمد السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *