وجب التمييز بين الإسلام في “مثاله وحكمه”، وبين الإسلام في “تاريخه الخاص”. يحاكم كثيرون “المثالَ والحكم” ب”التاريخ الخاص”، فيضيعون أحكاما قطعية، ويزهدون في مثل خالدة. ويحاكم آخرون “التاريخ الخاص” ب”المثال والحكم”، فيتكلمون خارج التاريخ.
كذلك هو الإسلام في تحريم “الملكية الخاصة الاستغلالية”. حرمها القرآن والسنة النبوية، فجاء على الناس حين من الدهر استحالت فيه هذه الملكية “ملكية خاصة” تخلو من كل استغلال، في ذهن من يصب هذا الأمر في مصلحته. واستمر الأمر كذلك إلى أن ساد في الأرض قول: “الإسلام نظام مشاطرة وملكية على حد سواء”، “وسطي بين نظام اجتماعي اشتراكي وآخر رأسمالي”.
والحقيقة أن الإسلام نظام مشاطرة، يبيح الملكية، شريطة ألا تكون استغلالية احتكارية.
وكذلك هي اليهودية، لم تكن كدين تأسس على أساس مواجهة “الفرعونية” لتبيح “الملكية الاستغلالية”، لم تكن لتبيح الاحتكار والربا وربح المال من المال والربح من المفاسد الأخلاقية والاجتماعية… الخ.
إلا أن الرغبة في “الربح الحرام” أدخلت يد التحريف على اليهودية، فأصبحنا أمام “يهودية محرّفة” لم تسلم منها المسيحية نفسها، والمقصود هو “المسيحية البروتستانتية”، و”الكالفينية” منها بالضبط.
عموما، اشتهرت “اليهودية المحرفة”، منذ تاريخها القديم، بمحرَّمين في المعاملات المالية:
– احتكار المال بالسمسرة: فقد كانت التجارة، في العصور القديمة، معاملة إنسانية تتم عن طريق المقايضة. فتدخل اليهود بين البائع والمشتري، للقيام بدور الوساطة أو السمسرة. فأخذوا يتكسبون من المعاملات التجارية بينهما، أي أنهم أصبحوا يجنون أرباحهم من غير أن تكون لهم يد في الإنتاج المباشر للسلع. وهكذا، تحولت النقود من وسيلة للمقايضة إلى وسيلة للربح، أي إلى رأسمال. (*)
– احتكار المال بالربا: وأهم مصدرين للربا، في “اليهودية المحرفة”، هما الإقراض والإيداع. وكلاهما كانا يتمان بفائدة: الأول بنص “سفر التثنية”: “للأجنبي تقرض بربا، لكن لأخيك لا تقرض بربا”، ثم بنص “العهد القديم”: “يباركك الرب إلهك كما قال لك، فتقرض أمما كثيرة وأنت لا تقترض، وتتسلط على أمم كثيرة، وهم عليك لا يتسلطون”؛ أما الثاني، فكانت بموجبه تودع الودائع النفيسة في دور العبادة، وأشهرها “هيكل أورشليم” الذي كان بمثابة “بنك جنيني”، مقابل حصول المودِع على فائدة.
إن “ربا اليهودية المحرفة”، أو لنقل “ربا حاخامات الأسر البابلي”، كانت بمثابة رد فعل على النقيض من أسرٍ أغلق أبواب التكسب الأخرى على اليهود. فبرروها بالحاجة إلى “التفرغ للعبادة، وممارسة الطقوس الروحية”. وهكذا، كُتب التلمود من قبل حاخامات الأسر المذكور، ليبقى مرجعية إيديولوجية يعاد من خلالها أسر اليهود في نظام اجتماعي رأسمالي. ولأن قصب السبق كان لهم في المعاملات الربوية، فقد كانوا بارعين في ربح المال من المال في هذا النظام.
ولا بد من التأكيد على حرمة الربا في “يهودية ما قبل التحريف”، إلا أن التخفيف من حدة هذا الحكم أخذ يتعزز شيئا فشيئا إلى أن أصبحت الربا معاملة شائعة لدى اليهود. (**)
ـــــــــــــــــــــــــ
(*): من نقاش مع عبد الصمد بلكبير.
(**): البروفسور فالنتين كاتاسونوف.