تَهويــدُ المعرفة

الصراع بين الحق والباطل مستمر وسيبقى إلى قيام الساعة، والتدافع بينهما سنة كونية باقية ولازمة، وفي هذا المقال نسلط الضوء على أحد أجزاء هذا الصراع المتمثل في الجهود الحثيثة التي يبذلها اليهود للسيطرة على العالم معرفيا بعد أن سيطروا عليها سياسيا وعسكريا واقتصاديا؛ ليحكموا السيطرة جيدا؛ فالسيطرة الفكرية إذا تحققت سهل تحقق كل شيء بعدها، وكانت سيطرة المجالات الأخرى محكمة.

ومن قرأ في بعض ما ينتجه المثقفون اليهود يرى إعادة تشكيل جديد للعقول، وعملية تطهير واسعة لليهود من كل أرجاسهم التي لحقت بهم عبر التاريخ، ومحاولة طمس الغير، واعتباره مجرد حشرة تستهلك، وكثيرة التوالد، يجب إبادتها للعيش بأمان، ولا يكفي إبادتها بل لابد من محو معالمها وتاريخها؛ حتى لا يبقى لها أساس؛ فكل عبقرية أو تقدم أو فكر حضاري ينسبونه إلى الأصول اليهودية، كان ذلك أو لم يكن.
ومن ثم ينتقل ذلك إلى المجتمعات الإسلامية وتردد فيها تلك الأكاذيب على أنها حقائق، توحي بتأصيل المعارف والأفكار على الأسس اليهودية، ونسبتها إلى علمائهم؛ ليحنطوا بذلك الأمم والثقافات الأخرى، وتصبح مبنى بلا معنى.
وإنما لجأ اليهود إلى التهويد المعرفي لإدراكهم أن الشعوب الإسلامية وإن كانت لا تمتلك القنابل الفسفورية والعنقودية؛ فقد ثبتت في مواجهتها ولا تملك ما تواجه به سوى آليات متواضعة وقناعات راسخة وثقافة أصيلة بهويتها وتاريخها، ويمدها ذلك بصر معنوي عجيب؛ لذلك تسعى المؤسسات والمنظمات اليهودية بكل ما أوتيت من قوة لإماتة المعرفة الإسلامية وطمس معالمها، وإحلال المعرفة اليهودية مكانها.
ويسعون لهذا التهويد بشره ونهم شديد لا يقل عن نهم احتلال الأرض، وربما كثير منا قد لا يشعر بهذا التهويد المعرفي؛ لكونه لا يذكر باسمه، ويقدم مغلفا بأغلفة مختلفة براقة خداعة، ويستند أساسا على مبادئ مستقاة من العلوم الطبيعية والإنسانية والدينية.
وقد لا نحتاج إلى التدليل كثيرا عن المخطط اليهودي لهذا التهويد؛ سيما إذا علمنا أن اليهود تقوم تربيتهم على الرؤية الدينية التوراتية، التي كانت ولا تزال يحكم العالم من خلالها، دون أن تبديها أو تعلن عنها، وترسخ هاته الرؤية في أبنائها، وتستعديهم ضد الشعوب الأخرى، ولتحقيق ذلك في كل فرد وعلى أتم وجه، جعلوا العدد الأكبر من الساعات الدراسية، من نصيب التربية التوراتية، ولنا أن نقارن ذلك بما آل إليه حال حصص مادة التربية الإسلامية عند المسلمين.
وحينما يقدمون للدول الإسلامية معونات تكون مشروطة بتنازلات في عدة مجالات؛ منها الجانب المعرفي المختزل في نظم ومناهج التكوين، وفي الوقت الذي يشحنون أبناءهم بالمفاهيم التوراتية المحرفة، نفرغ نحن أبناءنا من المفاهيم الإسلامية، ونطارد مثل هاته التخصصات عن وعي أو جهل!.
ويسخرون لتحقيق هذا التهويد المؤسسات العلمية والبحوث الأكاديمية والإعلام ومختلف الوسائل الأخرى، ويسلكون طرائق غاية في الدناءة والخسة، ولا يجدون حرجا من ذكر افتراءات وتذييلها بأكاذيب للتضليل على القارئ، ويسلكون مسلك التنكر لكل ما أنتجه العقل الإسلامي؛ ولأن فضيحة هذا التضليل ونسبة كل شيء لليهود افتراء باد للجميع؛ سلكوا مسلك التشويش على الثقافة الإسلامية في بعض ما أنتجته؛ كما في تأكيدهم على أن الإسلام مناقض للعقل والعلم، شأنه شأن أي دين آخر إلا اليهودية -كما يزعمون-، ويقدمون منجزات الأمة الإسلامية على مر التاريخ على أنها حضارة عربية بحتة لا صلة لها بالدين ظهرت على يد العرب في عصر الرشيد والمعتصم، زاعمين بأن ذلك كان بعد أن استغنى العرب عن الكتاب والسنة وتخلو عنهما، واتصلوا بالفرس واليونان وغيرهم، والغاية المبطنة والمكشوفة هنا فصل الشعوب عن الدين؛ لطمس الثقافة والتربية الدينية التي هي الركن الأساس للتميز الثقافي، في حين يتشبثون هم بما لديهم من تعاليم دينية مزعومة؛ باعتبارها الضامن لهويتهم.
وهكذا يؤسسون لمثل هاته المغالطات في مختلف كتبتهم ودراساتهم وأبحاثهم؛ لتظل الأجيال تستقي المعارف والمعلومات من تلك الكتب والدراسات والأبحاث، وتروجها للناشئة على أنها حقائق مطلقة؛ فيسود الفكر اليهودي ويمجد، وتزدرى الثقافات الأخرى بكل ما فيها؛ لتكريس ثقافة الاستعلاء والاستكبار المادي والثقافي الذي يؤدي إلى شيوع المناخ المعرفي الممثل للفكر اليهودي وتشكيل الإنسان وفق نمطه؛ حتى تجري عليه سنة التبعية والتقليد في كل شيء؛ كما تجري على كل كائن فقد صلته بفكره الأصيل، فلا يعود يرى ذاته وقضاياه إلا من خلال القوالب والمناهج والمقاييس التي اكتسبها من التبعية الثقافية التي فرضت عليه ووجدت لديه القابلية لذلك.
والمشلكة في كل هذا ليست في اليهودي الذي يريد تهويد العالم فكريا وثقافيا؛ إنما فينا نحن بفقداننا لأخص خصائصنا، وأهم ما لدينا.
إن مواجهة هذا التهويد أصبح فرضا على كل قادر عليه وعالم به، وأضعف ما يمكن أن يقوم به كل فرد مسلم أن يكون أمينا على ثقافته ويورثها للمجتمع من حوله والأجيال من بعده، لمواجهة هذا التضليل الثقافي، الذي يطبع الهزيمة في النفوس.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التهويد المعرفي وإن كان موجها بالأساس إلى الشعوب الإسلامية؛ إلا أن ما هو مفضوح منه ومكشوف يوجه غالبا لليهود والشعوب الأخرى التي لا تعرف شيئا عن الإسلام، وتسود بذلك الثقافة التي يروجها اليهود في مختلف المنابر والمؤسسات، ويترجم ذلك وينقل إلينا، ويتبنى على أنه من ثقافتنا، ويسخر لذلك عملاء وأجراء من بني جلدتنا الذين تكون مشكلة كثير منهم ممن وقعوا في أسر المعرفة اليهودية؛ فقر معرفتهم الإسلامية، وعجزهم عن إدراك ذلك، بسبب تلقي المعارف في مؤسساتها أو على يد عملائها وتلقيها عن مصادرها ومراجعها، ومن ثم التسليم بأن ما درسوه حقيقة؛ لذلك نجدهم يسخرون أو يستنكرون بعض ما قد يسمعون، من قضايا المعرفة الإسلامية.
ولبسط التمكن في الأرض للتهويد المعرفي؛ اعتمدوا على: تنقية وغسل اليهود من كل شائبة، وأي جرم ارتكبوه قديما أو حديثا ينفونه أو يبررونه؛ كما حرصوا على سرقة الإنجازات العلمية والسطو عليها ونسبتها إلى اليهود؛ وهذا ما يفسر منح عدد من الجوائز في مختلف المنابر العالمية لليهود.
ويتعمدون إطلاق الأكاذيب والبهتان؛ لنردد نحن ذلك فيصدقه من يصدقه، ومن يعرف كذبه، يشتغل طول حياته بالدفاع عن الشبهات ويقف دون أي تقدم أو بناء؛ ويشتغلون هم بجهود مضنية وحثيثة؛ فيما نظل نحن نراوح المكان، ونقضي طول العمر في نفي التهم ورد الأباطيل والشبهات.
ولا غرابة أن يسلك هذا المسلك في التهويد المعرفي قوم سمتهم الكذب والخداع، واعتبارهم أنفسهم شعب الله المختار، ويوهمون أنفسهم دائما بأنهم أصحاب: صيغة أفعل التفضيل: “أفعل” في كل شيء.
وتكمن خطورة التهويد المعرفي في كونه لا يقتصر على مفاهيم وأفكار؛ بل يتناول حتى المنتوجات المادية؛ عبر سن القوانين التي تعمل على اجتذاب المعرفة التكنولوجية للجهات التابعة وارتكاز كل ما هو مرتبط بالتقدم العلمي بها.
وأقوى وسيلة تسخر لخدمة هذا الهدف الإعلام؛ لما له من أثر على العامة والخاصة، ودوره في إعادة الصياغة والتشكيل، وقد استطاعوا التشويش على عدد من القضايا والأفكار عبر هاته الوسيلة؛ مستغلين الفراغ الذي تعانيه الساحة الإسلامية في هذا المجال، ونرى كل يوم خطوات حثيثة لقتل المعرفة الإسلامية ومحاصرتها.
ولعل استشعار المسؤولية تجاه هذا الغزو هي الخطوة الأولى لمواجهة هذا المد، وتسخير نفس الوسائل التي يسخرونها؛ لنشر المعرفة الإسلامية، وتبويئها مكانتها اللائقة بها في الساحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *