سنة الله في خلقه اقتضت أن يكون الجزاء من جنس العمل.. ولا تزال وقائع الأيام.. تحكي ما للمعاصي والظلم من آلام.. وما للطاعة والإحسان من ثمراتٍٍِ عظام {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
والله جلّ وعلا لا يظلم الناس شيئًا.. فهو يجازيهم في الدنيا والآخرة بحسب نياتهم وأعمالهم؛ فيجزي على السيئة بمثلها.. وعلى الحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء ويغفر لمن يشاء.
والمسلم له حالان:
حال مع الله جل وعلا.
وحال مع خلقه سبحانه.
فبحسب حاله مع الله يكون له، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وقال سبحانه في الحديث القدسي: “أنا عند ظن عبدي بي إن ظنَّ خيرًا فله، وإن ظنَّ شرًًّا فله” صحيح الجامع، وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، فبحسب تقرب المسلم من ربه يقرب منه الخير ويناله من الدنيا والآخرة.
وكذلك بحسب حاله مع الخلق يكون الله معه.. فإن أحسن إليهم أحسن إليه.. وإن عفا عنهم عفا عنه.. فجزاؤه من جنس خُلقه وتعامله مع الناس.. وهذه القاعدة تدل عليها نصوص كثيرة في كتاب الله وسنته.. وهي مما يتفق عليها العامة والخاصة..
وهذه القاعدة يدل عليها قول الله جلَّ وعلا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، فهي دليل على أن الله جلّ وعلا يحسن إلى من يحسن، ويرحم من يرحم، ويعفو عن العافين.
ومن تتبع نصوص الشريعة وجدها تؤكِّد هذا المعنى تأكيدًا مطلقًا؛ فما من معروف يعمله المؤمن إلا ويجد ثوابه حاصلاً من جنسه في الدنيا ولا بد.. ولذلك لما كان الجزاء من جنس العمل فقد جعل الله جلّ وعلا للمؤمن الحريص على العمل الصالح إحسانًا يليق بإيمانه وأعماله الصالحة في الدنيا والآخرة.. فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
فها هنا جزاءان:
أحدهما في الدنيا: وهي الحياة السعيدة الطيبة.
والثاني: في الآخرة وهو الجنة.
ولكن هذا الجزاء لا يكون إلا لمؤمن صادق الإيمان في عباداته وإحسانه في تعامله مع الناس.
وإذا سألت أخي: عن كيفية الإحسان إلى الخلق الذي به يكتمل العمل الصالح؛ فإنه هو ما بينه الله جل وعلا في كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك حديث أبي هريرة في صحيح مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “من أحبَّ أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت الناس مثل الذي يحب أن يؤتى إليه” رواه مسلم.
والإنسان -كل الإنسان- يحب من الناس أن يعاملوه معاملة حسنة، وأن يرحموه ويوقروه.. ويقدروه.. ويغفروا له أخطاءه.. ولا يتتبعوا سيئاته وعثراته.. وأن يعاملوه بما هو مقتضى الخُلق الحسن.. فإذا كان المسلم يحب ذلك من الناس.. فليكن هو كذلك معهم.. فإن ذلك يوجب له الجنة عند الله سبحانه..
وذلك لأن الجزاء عند الله من جنس العمل..
فمن رحم الناس رحمه.. ومن أحسن إليهم أحسن إليه.. ومن عفا عنهم عفا عنه.. ومن غفر لهم غفر له.. ومن يسَّر عليهم يسَّر عليه.. ومن ستر عليهم ستر عليه.. كما أن من فضحهم فضحه.. ومن ظلمهم سلط عليه من يقهره.. ومن شدَّد عليهم شدَّد عليه.. ومن أشقاهم أشقاه.. ومن خانهم عذَّبه.. ومن تتبع عوراتهم تتبع عورته.
فالله جلّ وعلا لك مثلما تكون أنت للناس.. وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جامعة.. فمنها:
قول الرسول عليه الصلاة والسلام: “والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم! قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة” السلسلة الصحيحة.
فها هنا الرحمة تشمل كل مظاهر الإحسان ولا يستحقها إلا رحيم.. ليس بأقربائه وأصحابه فقط.. ولكن بالناس كافة.. قريبهم وبعيدهم.. صغيرهم وكبيرهم.. مالكهم ومملوكهم.. فقيرهم وغنيهم.. طائعهم وعاصيهم..
وقوله عليه الصلاة والسلام: “الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء والرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله” السلسلة الصحيحة.
ورحمة الناس إنما تكون بالإحسان إليهم بالمال، والصدقة والكلمة الطيبة.. وكلَّ مفردات الخُلق الحسن، وكفِّ الأذى عن الناس.
وكما أن الإحسان إلى الناس جزاؤه الإحسان من الله، فإن ظلم الناس وإلحاق الأذى بالناس يوجب الأذى للإنسان بحسب ظلمه.
وظلم الناس يوجب استجابة الله لدعائهم على الظالم كما قال عليه الصلاة والسلام: “اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا فإنه ليس دونها حجاب” صحيح الجامع.
قال بعض الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبه سرعة: ظلم من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.
وتتبع العورة يوجب الفضيحة والعار كما قال عليه الصلاة والسلام: “يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله” صحيح الجامع.
فتذكر أن قاعدة الجزاء من جنس العمل لا تستلزم بالضرورة وقوع الجزاء في الدنيا سواء كان ثوابًا أو عقابًا.. كما أن للجزاء موانع تمنعه سواء كان ثوابًا أو عقابًا.
فكثير من الظلمة يؤجِّل الله عقابهم إلى يوم الدين.. وهذا يكون في حقهم من أشد العقاب.. ولذلك فإن عدم جزاء الله لهم في الدنيا هو محض استدراج يمليه الله لهم ليغتروا بأعمالهم.. ويطمئنوا على أحوالهم.. حتى إذا تخبطهم الموت انقلبت أعمالهم حسرات عليهم.. ونالهم أشد العذاب..
كما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
ثم إن سعة مغفرة الله جلّ وعلا تسع الأعمال السيئة.. فليس كل من يخطئ في حق ربه يجزى بالسوء ولابد.. بل إنه إذا استغفر الله من ذنبه.. أو أتى بالحسنات المذهبات للسيئات رحمه الله يوم القيامة وتجاوز عنه.
كما أن من عمل صالحًا وأتى بما يقدح فيه لا ينال ثوابه عند الله.. ومثال ذلك من أتى بما يحبط عمله.. كالشرك أو غير ذلك من محبطات الأعمال، فإنه لا ينال من الثواب ما يناسب عمله لأنه أتى بما يحبط ثوابه.
لكن الذي لا شك فيه أن سنة الله في خلقه قد اقتضت أن يكون الجزاء من جنس العمل في الدنيا غالبًا لا سيما في جنس المظالم التي تخص العباد.
فأحسن يحسن الله إليك.. واعلم أن الله لك مثلما تكون لخلقه..