في كل مرة تحصل جريمة بشعة مثل هذه التي حصلت في طنجة، يهتز الرأي العام المغربي ويتجدد الحديث عن عقوبة الإعدام. ما ألاحظه في كل مرة أن الغالبية الساحقة من المغاربة يكونون في صف هذه العقوبة، وذلك انطلاقا من ثقافتهم التي تمجد الشرف والتدين وتميل إلى تحصين العرض، وفي المقابل تقف فئة من القانونيين والحقوقيين المسيسين، فئة تمثل “نخبة” صغيرة.
هذا التقابل بين غالبية تمثل الجسم الاجتماعي للمغاربة، ونخبة صغيرة، كاف في حد ذاته لفهم أن الدفاع عن إلغاء عقوبة الإعدام قضية تهم الأقلية النادرة، وهذا ديدن القضايا الأخرى الهامشية من الحريات الفردية أو الجنسية وهلمجرا إلى أن تقف. فإذا عرفنا بأن إلغاء عقوبة الإعدام مشروع عالمي تقوده المنظمات الدولية (اقرأ الدولية: الغربية) عرفنا بأن هذه الأقلية الصغيرة داخل المجتمع هي لسان المنظمات الدولية في الداخل، ثم عرفنا أن هذه المنظمات تخدم قضايا الأقلية على حساب الشعوب. عملية حسابية منطقية صغيرة.
ما معنى هذا؟ معناه أن القضية فيها “قوى الضغط” (اللوبيينغ). تلعب قوى الضغط دورها عندما يستحيل أن تفرض هذه القوى مصالحها عن طريق المنطق الديمقراطي. وهكذا بدل اللجوء إلى الديمقراطية و”الاحتكام إلى الشعب” في قضايا مثل هذه يتم تهريب النقاش إلى أسلوب خطابي مهزوز يركز على الانفتاح والعالم والحداثة والتطور والنزعة (الإنسانية؟؟؟).
مهمة هذه المفاهيم الالتفاف على الديمقراطية وانتزاع القرار من الشارع. إنها الديكتاتورية الملونة التي تسحر العقول الصغيرة.
الذين يرفضون عقوبة الإعدام يرفضون الاعتراف بالكرامة الإنسانية. لا مكان للفلسفة العمياء في هذا النقاش، لأن الواقع يتحدى الفلسفة. لديك طرفان: القاتل والقتيل، إما أنك ترفض الإعدام دفاعا على الكرامة الإنسانية للقاتل، أو أنك توافق عليها دفاعا على الكرامة الإنسانية للقتيل وذويه. عندك نوعان من الكرامة، ولديك الاختيار. لماذا لم أقل (دفاعا على الكرامة الإنسانية للقاتل وذويه)، وقلت (دفاعا على الكرامة الإنسانية للقتيل وذويه)؟ لأن جريمة القتل جريمة ضد الإنسانية جمعاء، وفعل مستقبح في جميع الشرائع والثقافات، وقد يفرح ذوو القاتل بالعفو من العقوبة على واحد منهم، لكنهم من الناحيتين النفسية والأخلاقية لا يمكن أن يطبعوا مع جريمة القتل، بينما في الحالة المقابلة فإن ذوي القتيل جميعا يشعرون بنفس المشاعر، وهي أنهم طعنوا في كرامتهم وفي حياة واحد منهم. فهذا الفرق.
وإن الذين يطالبون بإلغاء عقوبة الإعدام يمارسون جريمة إنسانية وأخلاقية بأوسع معاني الكلمة، جريمة أدبية مقابل الجريمة المادية للقاتل الفعلي، فهم شركاء للمجرم ضد ذوي القتيل. إن المجني عليه عندما يتوجه ناحية العدالة فلأنه ينتظر رد الاعتبار، لكن ماذا عن هذا المجني عليه عندما يذهب إلى العدالة وهو يعرف مسبقا أن الإعدام غير موجود في قائمة العقوبات؟ ما الداعي إلى التوجه إلى العدالة؟ ما فائدة السجن سواء كان عشر سنوات أو عشرين أو مائة إذا كان القتيل يتمتع بحياة انتزعها بالعنف من شخص آخر؟ وهل من المعقول أن يجد القاتل الحماية من القانون الذي يعفيه من الإعدام، ويجد القتيل نفسه دون من يطالب بدمه؟ أي عدالة هذه؟ وهل إلغاء أوروبا لعقوبة الإعدام يستحق أن يكون نموذجا لنا؟
حتى لو تحدثنا من زاوية فلسفة القانون، أي الحكمة من التشريع كما نقول في الفقه، فإن عقوبة الإعدام في الحقيقة هي عقوبة قانونية وشرعية بسبب خرق القاتل لميثاق الاجتماع. يرى ماكس فيبر أن الدولة هي المالك الشرعي لحق استعمال العنف بما في ذلك القتل طبعا، فإذا مارس شخص ما هذا الحق الذي ليس له على شخص آخر يكون قد خرق ميثاق الاجتماع واعتدى على صلاحيات للدولة بحيث يستحق القتل.
وعدد من هؤلاء الحقوقيين الذين يشتغلون في مجال إلغاء عقوبة الإعدام كانوا قبل عشرين سنة يصرخون في وجه الدولة ضد “الإفلات من العقاب” كمبدأ غير قانوني وغير إنساني. والسؤال: لماذا تبيحون الإفلات من العقاب في جريمة الاغتصاب والقتل؟ وقد تقولون لي: الإفلات من العقاب لا يعني الإعدام.
وهذا مفهوم، لكنني أتحدث عن العقاب بصرف النظر عن طبيعته. فإذا تقرر أن لكل جريمة عقوبة فإن من طبيعة العقوبات أن لا تكون أقل من الجريمة، بل يجب أن تكون متناسبة معها على الأقل. فهل السجن المحدد أو المؤبد عقوبة في مستوى اغتصاب طفل في الحادية عشرة من العمر وتعذيبه وإرهابه وقتله ودفنه قبل بيت أبويه؟ إن كنتم ترونهما متساويين فعلى الدنيا السلام.
عقوبة الإعدام ظلت موجودة في المجتمعات الأوروبية طيلة قرون، منذ فجر التاريخ، إلى العصر الحديث، ولا يزال الكثير من الدول يطبق هذه العقوبة إلى اليوم، بينها الولايات المتحدة الأمريكية، طليعة الديمقراطية الغربية. وقد تعاملت أوروبا المسيحية بنوع من النفعية مع عقوبة الإعدام، بحسب الحاجة، فقد استبدلت بها العبودية في مرحلة من تاريخها، حيث تم تعويض الإعدام بتحويل الجاني إلى عبد، كعلامة على تجريده من حريته وإذلاله. وفي فترات المجاعات كان يتم تعويض الإعدام بالسجن المحدد، وفي فترات الحروب كان يتم إعفاء الجناة من الإعدام لأن الدولة بحاجة إلى جنود، وفي كل هذه المراحل كان الفرد يستفيد من العفو وعدم تطبيق الإعدام في حقه لقاء الرشوة. ومن ناحية أشكال التنفيذ كانت أوروبا تغير طريقة التنفيذ حسب المزاج أو التوافق، بحيث كانت تلك الطرق تشمل قطع الرأس والشنق والحقن وإطلاق النار والكرسي الكهربائي الذي يطبق في الولايات المتحدة الأمريكية. ومختلف هذه الطرق فيها تعذيب بشع للجاني، ما عدا قطع الرأس، وهو ما اختارته الشريعة الإسلامية التي نصت على إجراءات دقيقة في تنفيذ العقوبة بحيث لا يتم تعريض الجاني للتعذيب. وهذه هي الكرامة الإنسانية الحقيقية للطرفين، القصاص لأهل القتيل، والرحمة بالقاتل بحيث يتلقى العقوبة بالحد الأدنى من المعاناة، أما الميل لجهة واحدة، والتصرف وكأن القتيل لا يوجد ولا حقوق له، وأهله مجرد أصنام لا روح فيها، فهذا هو التوحش المعادي للعيش المدني.
لقد جاء في النص “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”.
وهو نص في غاية الدقة والهندسة الاجتماعية. فبصرف النظر عن كونه صادرا عن الله سبحانه وتعالى، فهو نص واضح محكم لا يقبل تأويلا. لا توجد كلمة في الآية تقبل أن يتم تعويضها بكلمة أخرى، لذلك فإن معناها واحد منذ 15 قرنا إلى اليوم. والخطاب فيها موجه إلى أولي الألباب، أي العقلاء الذين يفهمون ويعرفون كيف يتم تدبير الاجتماع البشري والحفاظ على السلم الأهلي والقضاء على الجريمة، ويتفكرون في فلسفة القصاص وحكمته، لا الجهلاء الذين يصرخون ضد عقوبة الإعدام لإرضاء الجهات الأجنبية. مختلف الآيات التي تتضمن أحكاما تتوجه إلى الذين آمنوا والمسلمين والناس وغيرهم، لكن آيات قليلة فقط تتوجه إلى أولي الألباب والذين يعقلون، وهذه واحدة منهن، وهذا ليس اعتباطا بل وراءه فلسفة تشريع. أما لماذا القصاص فيه حياة، فلعدد كبير من الأسباب، إنه أولا حياة لقلوب ذوي القاتل، حيث يعيد إليهم روحهم وينزل عليهم السكينة لأن الجريمة لقيت العقوبة المستحقة، آخر العقوبات، وهي القتل. وهنا أود أن أقول لمن لا يفهمون هذا المغزى ـ وأنى لهم ذلك ـ أن نزعة الانتقام ونزعة العنف ليست في القصاص، وإنما في تعذيب القاتل مثلا أو ملاحقة أقاربه أو الرد بالمثل أو سجنه مع حرمانه من الطعام والشراب إلى أن يموت مثلا، إلى غير ذلك، ولهذا نفهم ذلك التأنيب الرباني البليغ للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما قتل حمزة رضي الله عنه وتم التمثيل بجثته، فتوعد النبي بالتمثيل بجثث المشركين، فنزلت آية:”وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين”، لأن التمثيل بالجثة شيء زائد على العقوبة، وهو نوع من الانتقام الذي لا يليق، والمطلوب هو العقوبة دون أي زيادة.
إننا ندعو إلى حوار وطني علمي حقيقي حول عقوبة الإعدام في المغرب، في جرائم القتل العمد، والقتل المصحوب بالاغتصاب، وجرائم الإرهاب، حول يشارك فيه الجميع من علماء وقانونيين وحقوقيين ومفكرين. والرأي الذي نراه أن يتم اللجوء إلى رأي أهل القتيل في جرائم مثل هذه لكي تقرر ما إن كانت تريد عقوبة الإعدام أو العقوبة المحددة، وتقوم المحكمة بتنفيذ الأمر وفقا للقانون. والله أعلم.