حقق مناطك فإن الأحكام ذاتُ أنواطٍ تستحب تمائمها ولا تخل بتوحيدك..
وهو اعتبار مقتضى المفهوم
من جهة التأثير والعموم
مع اطراح مقتضى الخصوص
في الحال والزمان والشخوص
قَسِّمَ موارد الأفهام قبل أن تسبُرَها؛ فتقديم السبرِ لفظاً لأهميته تأثيراً؛ وإلا فهو التقسيمُ والسبرُ باتفاق الأصوليين، وإن عبروا بالسبر والتقسيم للنكتة المشار إليها..
وتأمل في الدوران اطراداً وانعكاساً:
وذا الذي سمي بالقياسِ
بالاِطرادِ مع الاِنعكاسِ
وعادلْ ما تعارض عندك من دلائل بلا تحاملٍ، ثم افزع بالتراجيح فما على المحسنين من سبيل؛ وإنما اللوم على من خلا من أدوات مناطٍ أو صحيحِ مسبار أو سليم ترجيحٍ، أو كان ذا هوىً متبعاً وراناً بمعصية الرب حتى أظلم القلب؛ فيصيرُ كالكوزِ مُجَخِّياً لا منكر ولا معروف!
ففي مثله قيل: “من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ”؛ فالعمدة على الأهلية وكفى، والله أعلم بمن تزكى وبمن اتقى.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
يرجع للترجيح عند من مضى
والمنع للبعضِ وليسَ مرتضى
وإن يك الترجيح عنه ينتفي
يرجعْ إلى تقليدٍ أو توقف
كذا قال صاحب المرتقى؛ فالتوقف ليس عيباً، وبالأخص إذا اندرج تحت أسبابه الأربعة التي أشرت إليها في نظمي [صداع العقول من دقائق الأصول]:
دوافع التوقف: التدافعُ
قصورٌ، تقصيرٌ، وَرِيعٌ؛ رابعُ
أي:
1- تكافؤ الأدلة.
2- قصورٌ يعلمه المتوقف من نفسه.
3- تقصير في البحث.
4- وَرَعٌ؛ وليس في المسألة ما يرشد للأحوط.
(وانظر له: “المستصفى” للغزالي 1/364، و”الضروري في الأصول” لابن رشد 1/93).
فهذا ليس من التردد الذي كرهه السلف؛ كما قال إمامنا مالك للمبتدع: “إذهب إلى شاك مثلك فناظره أما أنا فعلى بينة من ديني”.
ولا التراجع -تقدماً أو تأخراً- معيبٌ حينها؛ بل هو كما قال الشيرازي: “إن الفقيه كلما اتسع علمه كثر تردده”؛ وهو من طرق البينات التي يُمتحن فيها أهل الاجتهاد عند تحقيق مناطات الأحكام بكل أنواعها؛ قولاً بمشروعية الشيء أو عدمه؛ كما قال الشاطبي: “وهو مجال للمجتهد صعب الموردِ، إلاَّ أنه عَذْبُ المَذاقِ، محمودُ الغَبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة”اهـ.
بل بَيَّنَ تلك الحيرة في تحرير ضابطٍ لاعتبار مآل بعض المصالح؛ فقال في كلام دقيق يحتاج تتميمات من أهل الأثر والنظر:
“إنَّ اعتبارَ وُجودِ الحكمة في مَحَلٍّ عَيْناً؛ لا ينضبط؛ لأنَّ تلك الحكمةَ لا توجدُ إلاَّ ثانياً عن وقوع السببِ؛ فنحنُ قبل وقوعِ السبب جاهلونَ بوقوعها أو عدم وقوعها..
وإذْ لمْ نعلمْ وقوعَ الحِكْمَةِ فلا يصحُّ توقفُ مشروعيَّةِ السبب على وجودِ الحكمةِ”إهـ كلامه رحمه الله، وهو وإن لم يحل الإشكال؛ ولكنه شَخَّصَهُ لتنقحه الأنظار..
وهذه من أصول العلم السلفي التي نأت بأهل الإسلام عن الجَهْلَيْنِ الذين ادعاهما (أوليفيه رو) الفرنسي: “الجهل المقدس”، والضائع (أركون): “الجهل المؤسس”.
فالمنهج السلفي لا يعادي “القرآني” ولا “العقلاني”، ولكن يعادي حتميةَ الانفصام بينهما التي ادعاها كل من المذكورَيْن؛ والله قد فرض جمعهما وترتيب التعاطي معهما.
ولا مشكلة في المنهج السلفي مع “ظاهر النصب” و”ظاهر التشيع”؛ ولكن المشكلة في الانحراف الذي أَبَى الجمع بين الحُبّين: حب الصحابة وحب آلِ البيت، وحسن التقديم في الدرجات العليا بينهم؛ كما فعل الإمام النسائي في رحلته المشهورة بين الطائفتين.
إنَّ بعضنا يتشنج -عن حسن نية- لرأيه الفرد؛ فإذا ظفر له بإشارة دليلٍ قال: “لا اجتهاد مع ورود النص”؛ فيرقى برأيه عجلةً إلى درجة النص؛ ثم يبني عليه -طبعاً- أنه لا يجوز تعقبه برأيٍ..
ثم يبني عليه -لزوماً- تضليل من خالف النص؛ لأنه أعرض عن الوحي!
وليس من المعتصمين بحبل الله!
وصولاً إلى بحث الفرقة الناجية والطائفة المنصورة..!!؟؟
وهذه كلها لوازم صحيحة، ولكن الخلل وقع في رأس البحث حيث ظنَّ ما ليس نصّاً نَصّاً!! والنص عند العلماءِ هو الذي لا يعتريه احتمال، وشاع التعبير عليه عندهم بقولهم: “تنزيله تأويله”.
كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
فهو أخطأ في “تصور النص” -الوحي- المقصود بالأدب والوعيد؛ ثم أخطأ ثانياً في تسمية ما اعتمده نَصّاً؛ وقد يكون ظاهراً أو مؤولاً أو مجملاً أو معللاً أو مُعَطلاً أو محتملاً..
أو غير ذلك من درجات القوة في الدلالات بعد التفرغ من عَرْشِ الثبوت؛ ثم أخطأ في الفهم وفي التنزيل بالضرورة وهو يحسب أنه يحسن عملا وأجاد صنعاً.
فننتقل -ونحن لا نشعر- من تعظيم نصوصنا إلى تعظيم نفوسنا؛ فيصدق علينا قول بعض الفضلاء: “نحن أشد من الغربيين الذين قالوا: (معنا أو مع الإرهاب) إذ نقول: من لم يكن معي فهو ضد الله!!!
وقريب منه حين نحظى بأثرٍ في سياقٍ معنى ما أو عبارةٍ في معتقد إمامٍ من الأئمة؛ فنعاجل النظر -بِلاَ مساسَ- فنقول: هذا مذهب السلف أو العهد العتيق الذي هو سفينة نوح!
ولربما لم نفطن إلى أن مخالفها معه آية من القرآن وأحاديث من جامع ابن إسماعيل..
وقد بيّنا خطر هذا التخييل في “مقالة ابن القيم”.
ومن التخاييل أيضاً:
أن يظن بأن اختياره هو مذهب الأكثر من السلف أو من الخلف، ثم يبني عليه أنه مع السواد الأعظم وعليكم بالجماعة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والرجوع إلى الحق فضيلةٌ وإن الحق قديم وأن الشذوذ شَقٌّ لعصا المسلمين (والمسلمون غالبا في تصور بعضهم حزب أو جماعة أو قبيلة..)!
فإذا جاوَبَنا مخالفُنا بأن عموم العلماء على خلاف اختيارنا؛ تحَصَّنَا بقوله تعالى:
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: 71].
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
“اعتزل تلك الفرق كلها”، “الجماعة ما كان على الحق ولو كنت وحدك”
الثباتَ الثباتَ ..، “وَطِّنوا أنفسكم”، “إياكم والتنقل”، “ولا تزال طائفة من أمتي”.. إلخ.
وإن خولفنا بعالمٍ نرتضيه قلنا: (هذه زلة لا نتبعه عليها، وكل يؤخذ من قوله ويترك..).
وإن كان من عالمٍ لا نرتضيه قلنا: (هي شنشنة نعرفها من أخزم، وإنه كيت وكيت..، وانظروا عمن تأخذون دينكم…).
وإن وافقنا عالمٌ كان النجم الذي لا يبارى، والمسائل الكبار للكبار وما عداهم الصغار..
فتصير حقيقة الأمر أنَّ ذلك المتابع المتفرج في الأحداث وابتلاء الحق فيها؛ هو “العَلاَّمة الحقيقي” “وأهل الذكر وأهل الاستنباط” جرحاً وتعديلاً، تصوبةً وتخطئةً، عَمَلاً ووَرَعاً..
وأُرى هذا فينا مِنْ الظلمِ لأنفسنا وخلاف العدل المأمورِ به كما قال ابن تيميةَ: “إنَّ العدلَ واجبٌ في كلِّ أَحِدٍ على كلِّ أحدٍ في كل ظرفٍ وكلِّ مكانٍ وكلِّ حالٍ؛ والظلمُ مُحرَّمٌ من كلِّ أَحَدٍ على كل أحدٍ في كل ظرفٍ وكلِّ مكانٍ وكُلِّ حالٍ” [المجموع19/44].
ولذا قال رحمه الله في المنهاج (5/239): “ينبغي أن يؤخذَ المبتدع والمخالف بالرحمة والإحسان لا بالتشفي والانتقام”.
ويؤكد هذا المعنى ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قيلَ له :”إنَّ قوماً اجتمعوا على سُكْرٍ ولهوٍ وقَصْفٍ؛ فجاءَ إليهم فوجدهم قد تفرَّقوا؛ فحمِدَ اللهَ وأعْتَقَ رَقَبَةً”..
وقريب من هذا أننا ندعو للعلم -وإنه لشرف عظيم لنا فيه محاضرات-؛ فإذا حاججنا فيه أحد قلنا: “علم لا ينفع” و”أكثر منافقي أمتي قرَّاؤها”، وأن “الأهم العمل والدعوة” -وإنه لصحيح وعلو-؛ فإذا عمل أحد بمقتضى العمل والدعوة كُلاًّ؛ قلنا: “وليسعك بيتك ولتبك على خطيئتك”.
فإذا التزم البيت -قائماً مخبتاً- قلنا: “أضلُّ الأمة العُبَّاد”، وأشر البخل ترك زكاة التعليم، ورقيق القلب رقيق الدين، وسريع الدمعة متخاشع..
فإن طلب رزق عفافٍ كان صاحب دنيا، وإن تزهد كان متملقاً أيدي الناس ..
وإنِ ابتلي في نفسه كان: “الأمثل فالأمثل”، وإن ابتلي غيره من المسلمين كانت له “المُثُلاتُ”، و”الذلة والصغار”..
وإذا انتقدتك فأنا “هدام”، وإذا انتقدتني فأنت “البناء الحكيم” ..
فهذه الثنائيةُ الخطيرةُ؛ نائيةُ باضطراباتها عن التوطين الوسطي؛ -ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم-، وعندنا عشرات المعضلات في عدم التحري في “أصل الحق” المتجادل حوله، قبل التفريع عما ينبني عليه ترغيبا أو ترهيباً ولاءً أو عداءً..
يتبع بحول الله تعالى