مصائب قوم عند قوم كوارث عبد المغيث موحد

ما جدوى عناء الكثرة؟ وما جدوى مكاء النفوس المنفوسة، وقد تمزقت عرانا الأبية حتى اتسع الخرق على الراقع، وغابت عن وجوهنا تلك الحمرة التي تتقلص من تمعرها عضلات الوجه غيرة على حمى الدين، وحسرة على خلق الحياء؟
فما أصعب أن يعيش الصادق بذاكرة حصيلة باحاتها لا تبلى، ومخزون مآسيها لا ينسى، تجترها الناصية، وتعتصرها شرايين مضغة الجسد المتهالك، لتنتجها مقلة الأشراف عَبرات حارة تأبينًا لنعش هذه الأمة التي تداعت على قصعة خيراتها سيوف الكفر وصوارم الإلحاد..
فما أقرب الأمس، يوم خرج الناس في بعض ضواحي الوطن إلى الشوارع يحملون بأيمانهم كسرات خبز، في دلالة رمزية عن حاجتهم إلى من يدفع عنهم غلاء الماء والدقيق، ويرفع عنهم غبن تسعيرة ما تخرجه الأرض من بقل وفوم وعدس، يوم سمعنا عن مناطق محاصرة بالماء والبرد والثلج، وعن نساء لا يجدن سريرا ولا حصيرا ليضعن أجنة الخير، وعن مرضى تعاون على إبادتهم المرض العضال، وشح التطبيب، وتكالب أشباه الطبيب، وعن ضحايا الفقر البعيدين عن مركزية دولة المدينة حيث أسوار “سبارطا وأثينا”، وحيث ما دونهما فسراب وخراب..
ويوم شاع خبر موت أطفال الأطلس مختنقين من فعل تحلقهم حول تنور وصيد الكهف الطيني، الذي يقي الفقراء حر الرمضاء صيفا، ويدفع عنهم قساوة القر شتاء..
ويوم شيعنا بقلوب مكلومة أراوح شهدائنا أطفال غزة ونساء العزة، يوم دك بنو صهيون العمران حتى اختلط اسمنت البنايات بلحم الصبية والشيوخ والنسوان، وقائمة المخازي والمآسي حبلها طويل السرد عسير الجرد..
فما أشبه ذلك الأمس باليوم وقد نشرت وسائل الإعلام تخبيرا عن الأزمة المالية العالمية التي كان من تداعياتها أن تهاوت نظريات الاستصنام الليبرالي، وانقضت أسوار المدارس الميركانتيلية للتجارة الماسونية حتى رأينا بأم أعيننا كيف أصبح المواطن الأمريكي لاجئا في وطن العم سام؟ يأزه شبح الجوع، وتلفح سحنته البيضاء شهب العراء، وهو الذي طُرِد من بيته الضرار، فخرج ليبني خيمة الإفلاس على بطحاء الكرياس، واستعاض عن فخامة الفنادق بإقامة السرادق في غربة غريبة وملحمة كئيبة، بلغ سعيه معها أن فرّق فلذات صلبه على أسرّة الملاجئ الاجتماعية، فسبحان من أمرُ عطائه ومنعه بين الكاف والنون.
وإذا كان هذا حالنا بالأمس وحال الناس من حولنا اليوم، حال لا نحتاج إلى كثير عناء لنجتر فصول تجلياته وملامح تمثلاته، فإننا اليوم وبكل حزن وأسف نقف مشدوهين أمام هذا الاجتراء الماكر، والتغافل السافر الذي سرى في عروقنا سريان السم النقاع، الذي يبغي إنهاك قوتنا، وإصمات استهلالنا، وإشلال حركتنا، ومحق بركتنا.
رهان يقود أمنية إنفاذه، وبغية تحقيقه، شرذمة من الأنذال، وطائفة من الحقراء، جاءوا يحملون أمساخ مشاريع تأبطوها، ونافحوا بكل مكر وتدليس لإخراج أجنتها الممسوخة إلى واقع الحال، تارة باسم الثقافة وأخرى باسم الحرية، والكل بطبيعة الحال يصبو إلى مقارعة ما يطيب لوطاوط الظلام أن تسميه بخطر الأصولية والرجعية والظلامية، محاضن التطرف وأرحام الإرهاب! وهكذا ستتناسل المهرجانات والملتقيات والسهرات الماجنة تناسل ياجوج ومأجوج، وتبسط يد الوزر إغداقا على رعيل من الراقصات العاريات وقطعانا من أهل المغنى واللهو الماجن المتفسخ دون رقيب ولا حسيب.
ففي الوقت الذي تتشحط فيه بالفاقة والفقر دول كانت حتى الأمس القريب تتشدق كبرًا وعلوًّا بما وصل إليه المواطن من دخل فردي متميز، وعيش تجاوز الضروريات، وتخطى عتبة التحسينيات، وهي اليوم تقتات على موائد المساعدات والإعانات، غدوها ورواحها بين طرق أبواب صناديق النقد، واسترحام أرباب النفط..
يقع كل هذا بينما يفضل بنو علمان في وطننا العزيز استنزاف المال العام، وبسط يد العطايا على أهل الفساد وتجار الكساد، والأدهى: مكرهم بالليل والنهار من خلال تحيين مهرجانهم ونصب منصاته الملغومة تزامنا مع أوقات الامتحانات الحرجة، حتى إذا سئل عن الحكمة من ذلك أجاب نذالة وجهالة أن أجندة الفنانين المستقدمين مملوءة عن آخرها أول الصيف وآخره، أضف إلى هذا مراعاة عامل السعر وزهادة فاتورة الأداء، وهي مسائل حاضرة في وجدان المحتضنين وضمير المنظمين الذين يخشون الإسراف ويكرهون تبذير المال العام، ولا غرابة من دعواهم هذه ولا عجب من كذبهم هذا، وهم الذين استنسروا كل إفك زاهق، واستأسدوا كل فكر مارق، واستشرفوا كل ماكر ناعق.
ولذلك لن نكون مع سطوتهم وتغالبهم في حاجة إلى تعداد ضحايا الاغتصاب والتحرشات والسرقات التي أثتت مشاهد الموازين الخاسرة، ولن نستطيع الوقوف طويلا على ملابسات حادثة “شهداء” الأغنية الشعبية، وليس هذا من باب التسخط واللامبالاة وبرودة درجة حرارة الحي الوطني، ولكننا نؤثر مكرهين الإعراض عن الحصيلة التفاتة منّا إلى الأسباب والمسببات، ورغبة في الوقوف على بدايات الخلل، ولذلك سنرجع بذاكرتنا إلى كلمة قذفنا بها أرباب الاحتلال قديما، فنعتوا دولة خلافتنا بالرجل المريض وصدقوا، ولم يكن كلامهم رجما بالغيب، إنما كانت إشارة أصبع، وعبارة دقيقة من كيان يعرف ما يقول، كيان نفث فينا مادة الوهن، كيان عمل على وضع الحجر الأساس لمصانع البكتريا للشهوات الضارة، وفيروسات الشبهات القاتلة، ثم أوكل إدارتها إلى رجال تربوا في كنفه، وترعرعوا على عينه، وتغذوا من لبان محاضن شيطنته، وهؤلاء حتى لا تزيغ بنا السبل، هم الذين وصفهم الرحمة المهداة بالذين يهدون إلى النار، ثم وصفهم لسيدنا حذيفة بوحي من الله أنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!
وهذا هو بيت الداء القصيد، وهذا مكمن الخطر الأكيد، الذي يتربص بنا ريب المنون، ويبغي سوقنا إلى دار البوار، وهذا هو مصدر الدخن الذي عكَّر معين الخير فحوَّله إلى غور وملح أجاج، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *