عندما كانت النيران المحرقة تأكل في غير هوادة الأخضر واليابس من ثروتنا الوطنية الغابوية هناك في أقاليم شمال مملكتنا الآمنة، منذرة بكارثة بيئية غير مسبوقة النظير، وكان أهل القرى المجاورة يسمعون لأكلها ذلك تغيظا وزفيرا، بينما ظل وبات وأمسى وصار المواجهون لها عند خط التماس من خطوط المقدمات القاتلة يحنذون تحت لهيبها الحارق ودخانها الخانق حنيذ العجل في تنور الشواء، يبلون البلاء الحسن ليلا ونهارا، ويردون عاديات هذه الكارثة التي تذرو شررها الرياح العاتية، وتغذي لهيبها رمضاء الصيف الحارة المحرقة، لقد كان هؤلاء الأبطال بين مطرقة النيران وسندان أجواء الصيف اللاهبة، وتلك سيرة المنتسبين إلى الوطن انتساب حق وصدق، ركزهم في مناكب الوطن محبور بمداد محلوله خليط متجانس من ماء العيون وعرق الجبين ودماء الأوصال، وإنما تتبين المعادن وتتمايز مادتها تحت محك الأزمات وتُعَزُّ أو تُهان على مشرحة الفتن وأتونها الممتحنة، وإنما تحيا الأمم وتنهض من كبواتها بجهد سواعد المخلصين من أبنائها، وتضحيات الثلة الخيّرة من المرابطين على حياضها وثغورها، وفي المقابل تنفضح عرى العابثين والمترفين واللاهين وكل عالة طفيلي يقتات من خيراتها على غفلة من أهلها، ويتلصّص الألقاب والمنازل والمدارج المزيفة المراتب، وهذه سنة الله الكونية قبل الشرعية في جنس الزبد فإنه وإن طال مكثه فلابد له أن يذهب جفاء.
لقد كانت قنوات التلفزة المغربية بمعية شبكات التواصل الاجتماعي وشرائط الماجريات ذات الطابع التداولي، تجود بصور مباشرة من عين المكان، فتؤرخ للحظات عصيبة عاشها الشجر والحيوان والبشر، لقد شد الرجال عن مئزرهم مرتحلين مهرولين في غير تردد نحو بؤرة موقد النيران وتنور لهيبها المارق الحارق، فلم تسجل قواتنا العمومية ولا شباب وكهول المناطق المجاورة غيابا يحسبهم ويصنفهم من الخوالف والقواعد من الولدان والنساء والشيوخ والعجزة، ارتحلوا مخلفين وراءهم السكن وشجن الأهل والعشيرة والولد، في غير تمنن ولا إباء ولا مزايدة، إنك وأنت تقرأ وترسل بصرك في تشكيلات هذه اللوحة المأساوية وما صاحبها من شرف المسارعة في خدمة الصالح العام، لتستلهم من فورتها وجهادها ومرابطتها في ذوق وتشخيص ذلك التخبير والتصوير النبوي الصادق وهو يضع المعيار الاجتماعي والملمح التكافلي والمدني لمجتمع المسلمين الفاضل ودولتهم الآمنة المطمئنة الموحدة، وقد مثّل له ولها عليه الصلاة والسلام بالجسد الواحد الذي متى ما اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء الأخرى بالحمى والسهر.
ولم يكن ليعكر صفاء هذه الصورة وواقع إيغالها في طوباوية فاضلة وصادق تكافل وعظيم تضحيات، إلا ما تناهى إلى السمع فَرَدَّ البصر خاسئا من أخبار وأحداث تحكي بالصوت والصورة والرائحة عن ذلك اللهو الراقص هناك في الجزء غير البعيد عن ألسنة النيران الحارقة من نفس جغرافية الوطن المكلوم المثخن بالجروح، وأعني بها تلك المناطق التي تعيش أبهة الصيف، وعنفوان طيفه الناغم المحتفي المنتشي في زهو بشواطئه، الحفي برواد باحات وساحات مدنه السياحية وغير السياحية المنظمة لمهرجانات التفاهة، قد تناسل عددها ليستوعب الربوع تناسل الفطر في يوم ممطر، إنها مهراجانات لم يلتفت منظموها ولم يعبؤوا بما عاشه ويعيشه وسيعيشه إخوانهم في الدين والعرق وعروة الوطن من معاناة وأزمات يشيعون أحزانهم كل يوم إلى جبانة الترك والنسيان، إنها والله لنوازع الأثرة لنفوس مريضة همّها الأول هو انتهاز الشهوات واللذائذ والدفع في مقابلها من حصاد المال العام ما لا يعلم حجم رزمه وعدد أرقامه إلا الله، ثم رصيد معشر المدفوع إليهم بجود وكرم وسخاء حاتمي الغريزة.
إنني لا أكاد أستوعب أنه وإلى حدود كتابة هذا البوح المجروح وبينما لا تزال فيالق الإطفاء وفرق الوقاية المدنية تقاوم وتدافع وتصارع ألسنة النيران هنالك في غابات مدينة الحسيمة المغربية الجريحة، أن نسمع في الوقت نفسه والزمن عينه أنه لا تزال جمهرة من الهُمّل من الذين لا يدركون حجم المأساة ولا يحسنون صنعا يهتزون ويتمايلون ويعلو مكاؤهم وتصديتهم في الأفق تحت أزيز وصخب الموسيقى والغناء الذي يؤثث أركان هذا المهرجان أو ذلك، إنني لا زلت أستنكف هذه الأنوية الطافحة ببرغماتيتها الساذجة العابثة، متسائلا في استغراب يؤز أنفاسه الألم تلو الألم…
أمعقول أن يكون في الجسد الواحد عضو قد أصابه جرح غائر ما فتئ ينزف، ثم نرى في نفس هذا الجسد لسانا مغنيا وثغرا باسما، ورجلا راقصة ويدا مصفقة، إنني لا أكاد أستوعب أو أصدق كيف لمسؤول أن يغوص في رماد أزمة الحريق الحار الساخن بوجدان وذهنية باردة تتنفس خارجه حيث الرقص والغناء والطرب، وحيث نزيف المال العام يهدر وينفق بكرم حاتمي على معشر الراقصين والراقصات، والمغنيين والمغنيات، والمطربين والمطربات، والمهرجين والمهرجات، والغاوين والغاويات…
أمعقول أن تكون من أولى أولويات رئيس حكومتنا شد الرحال بمعية وفد وزاري تشكل من وزير الشباب والثقافة والتواصل، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يتقدمهم كبيرهم هذا الذي علّمهم السحر في زيارة إلى مدينة مسقط الرأس ومهوى النفس ليسجل حضوره وحضورهم الوازن، وليدشن لوجوده ووجودهم بين مريدي مهرجان تيميتار الغنائي الراقص رواده على ركام رماد الأشجار وفتات الأحجار التي طحنتها رحى النيران الزاحفة هنالك داخل جغرافية الوطن الجريح؟؟؟
إنه والله لهدم صريح للقواعد العرفية والقانونية والأخلاقية للمفهوم الصحيح والذوقي لمعاني الحكومة وأدبيات سياسة الناس.
أمعقول أن تحج إلى فضاءات هذا المهرجان وباقي المهرجانات أعداد من الكسور البشرية تُعَدّ وعُدّت حسب تقديرات اللجن المنظمة بمئات الآلاف، والغريب العجيب أنّها عين الأعداد البشرية ونفس الوجوه التي لطالما سمعنا لها صراخا يعلوه الأنين ومردوف الآهات ومرفوع عقيرة الشكوى لله ولغيره، من وطأة الارتفاع الصارخ في أثمنة المواد الاستهلاكية الضرورية لمجرد بقاء المرء الواحد من هؤلاء الكيّالين المغفلين حيا على حافة الحد الأدنى لتمظهرات العيش الكريم في معركته اليومية الدائمة والمستمرة، ونقصد بها معركة الخبز؟؟؟
إنه وتالله لنقض آثم لعرى المواطنة الحقة، وتحلل وانسلاخ صريح عن لازمها، وسوق للناس بالإكراه والتدليس إلى الحياة البئيسة والعيشة المقبوحة، باسم الحداثة والتقدم والعصرانية.
إنني لا أزال، وما فتئت متسائلا عن أي ضير كان سيصيبنا بغير تنظيم هذه الحفلات الصاخبة الماجنة أو بناء سرادقها المنكرة، وما برحت مستفهما عن أي خير جلبته هذه المهرجانات للبلاد والعباد فأصابت به حياتنا بعز وسؤدد وغنى ويسر لا ضغن فيه ولا كزازة؟؟؟
إنني لا أزال أتأسف متحسرا في خيبة خاطر ولوم ضمير من حقيقة وجود كيّال منا لفولهم، ومقبل من نوعنا بنهم على حشف بضاعتهم المطففة الوزن المدخونة السمن.
وقد يزداد المرء أسفا وحسرة عندما ترى طغمة المنظمين لهذه المهرجانات يقررون في غير حياء، ويعتسفون القول بكل صفاقة، فيحكون حكاياتهم المرسلة عن نجاح مشاريعهم الترفيهية، مستندين في زغرودة زعمهم هذا على أرقام الحاضرين والحاضرات، والواقفين والواقفات، والراقصين والراقصات، أمام منصات وسرادق الفرجة المجانية أمام أكبر النجوم العالمية والقدوات الفنية المحلية…
إن عيب هذه الجماهير ومأساة منظمي وصانعي الفرجة لها، أنهم باتوا يتحلّون بذاكرة قد أصابها الخرف، فلم تعد هذه الذاكرة قادرة على التخزين ولا على الاجترار الذي يصب في رصيد العظة والاعتبار، فحتى الأمس القريب عاش وطننا أزمة الجائحة، فهل يا ترى اشتكى من قلة الفنانين أم من قلة الأطباء والمسعفين، وهل كانت حاجته إلى المهرجانات أم إلى الأسرّة الإنعاش والممرضات، وهل احتاج الوطن يومها لرقص الراقصين أم لدأب الأساتذة والمعلمين، وهل كان العوز من جهة شح في عدد المغنيين واللاعبين أم تعضدد حاله بسواعد الرجال من الأمنيين والدركيين والعساكر والقوات المساعدة والإطفائيين.
لقد عرّت الجائحة عن حقيقة الأمور، فانجحر قوم في الجحور وتوارى آخرون وراء أقنعة التعاويذ والبخور، بينما هرع المنتسبون إلى الوطن انتساب نفع ودفع إلى الحياض والثغور، يواجهون ويدفعون ويقاومون صائل الجائحة ويذوذون عن كل سليم وعليل ومضرور، لقد وُضعت مفاتيح الأزمة يومها في أيد باطشة نظيفة، بينما توارت الأيدي السفلى وراء الظهور وكأني بها تنتظر كتاب أعمالها من الخلف.
وهذا شأن الفتن متى ما وقب شر غاسقها، فزع الناس ولاذوا بعد الله إلى أولي العزم من المجاهدين المتخصصين في شتى ميادين وتخصصات ما فيه نفع للناس، لقد ذهب الزبد يومها جفاء، وتبيّن للناس بالمُشاهد والمحسوس والملموس أن ما كانوا يعتقدون فيه لضبابية الرؤية وظمآنية الجوف زلالية ماء، ما هو إلا سراب كاذب ومأمول راسب، فهل بعد الحق إلا الضلال؟؟؟
إنني سوف أعود لأكرر وأقول، أن الذي ينظم رقصا، أو ينخرط راقصا، أو يزور راقصا، أو يكون حفيا براقص يكافئ عمله التافه بالأجر الكبير، والناس من إخوانه يحنذون، والأرض من حوله تشتعل نارا وتلتهب شرارة، إنما هو خائن لله ولرسوله وللوطن وللناس أجمعين، وإنما هي سيرة المترفين وعقيدة نفوس لا تتحرك إلا لشهواتها، ولا تغضب ولا تفرح إلا وفق ما ترتضيه غرائزها المريضة، ولا شك أن من مات في دواخله الإيمان الإيجابي، حلّ وانبعث في داخله الإيمان الكاذب المغشوش السلبي، نسأل الله السلامة والعافية آمين.