مكانة العقل في فكر المدرسة السلفية في المباحث الكلامية (سبب تبني السلفيين الرد على خصومهم بالطريقة العقلية) -5- ذ.طارق حمودي

قال الدكتور محمد الكتاني عضو أكيديمية المملكة المغربية سابقا:
(بالنسبة لجمال الدين القاسمي فقد نقل منهج بناء العقيدة من مجرد منهج للتوفيق بين العقل والنقل؛ إلى منهج أكثر تطابقا مع تطور الفكر في عهده.
كان يرى علم الكلام بمثابة حوار مفتوح على مرّ العصور مع المخالفين والطاعنين الذين يتخذون في كل عصر منطقا جديدا… لأنه لا مناص في رأيه من مقارعة الطاعنين فيه مقارعة تعتمد فيه الحجة الدامغة والمعرفة الكاشفة لأضاليلهم1) .
ومما يدل على هذا التوجه الجدلي عند العلامة القاسمي في تفسيره (محاسن التأويل) رده على أهل الكتاب والمعتزلة خصوصا الزمخشري، وكان أحيانا 2ينقل ذلك عن ابن تيمية وابن القيم كما قال الأستاذ عبد الرحمن يوسف الجمل .
وغيرهم كثير كابن قدامة(620هـ) في ذم التأويل، وأبي نصر السجزي (444هـ) في الرد على من أنكر الصوت والحرف، والسفاريني(1188هـ) وهو أحد الحنابلة القلائل الذين تجاوزوا استعمال العقل في الاحتجاج إلى تبني الاصطلاحات الكلامية في كتابه (لوامع الأنوار البهية) وهو الأمر الذي دفع بعض الحنابلة إلى انتقاده في ذلك زاعما تأثره بالفكر الكلامي، والعلامة عبد الرحمن المعلمي(1386هـ) الموصوف بذهبي عصره.. وقد أكثر من الاحتجاجات العقلية وناقش ذلك فكريا ونظر لمذهب المدرسة السلفية في كتابه الحافل (التنكيل)، ومثله العلامة السعدي(1376هـ) خصوصا في كتابه (الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين)، وكتابه (الرياض الناضرة)3 فإنه قال في مقدمة الفصل الخاص بتوحيد الربوبية سماه (الفصل الحادي والأربعون في الإشارة إلى البراهين العقلية الفطرية على ربوبية الله وإلهيته):
(وليس القصد في هذا الفصل ذكر الأدلة النقلية عليها فإنها واضحة جلية متقررة عند الخواص والعوام، وهي وحدها كافية وافية بالمقصود معرفة بالله 4جملة وتفصيلا. ولكن نريد أن نشير إشارة إلى أدلتها وبراهينها العقلية التي يخضع لها كل عاقل منصف، وينكرها كل مستكبر مكابر مباهت) .

– الجدل العقلي عند المدرسة السلفية في شمال أفريقيا
كغيرها من المدارس؛ انتشر أتباعها في كل بلاد المسلمين ..ولعلها أولى المدارس انتشارا لسبب واحد وجيه.. وهو أن الفاتحين الأوائل كانوا من المنتسبين إليها!
وقد مرت هذه المدرسة -كالمدرسة المشرقية- بمرحلتين اثنتين: مرحلة الكف عن الخوض في المناظرات الجدلية والاكتفاء بالردود النصية، ثم مرحلة المنازلات العقلية والحجاجية.
– قال الدكتور عبد المجيد بن حمده: (وبهذا تكون المدرسة السنية الأفريقية قد مرت بمرحلتين أساسيتين، تتمثل أولاهما في التشبث بمنهج السلف والوقوف في وجه المبتدعة لاستنكار مقالاتهم والتنديد بمذاهبهم.
وأعقبتها مرحلة ثانية تميزت بظهور المتكلمين السنيين ومناظرتهم للمخالفين من خوارج صفرية وإباضية ومن معتزلة ومن شيعة إسماعيلية وظهور المؤلفات 7في الرد عليهم، وأبرز متكلمي هذه المرحلة محمد بن سحنون 5 وسعيد بن الحداد 6 وابن أبي زيد القيرواني) .
ومن ذلك قول أستاذنا الفاضل جمال البختي حفطه الله تعالى: (وإلى السلالجي يرجع الفضل في إثارة انتباه السلفيين المغاربة إلى أهمية الجانب الطبيعي في الاستدلال على القضايا الإلهية والغيبية) فهذا يدل على أن المدرسة السلفية المغربية زمن الدولة الموحدية لم تنتبه فقط إلى الأسلوب الجدلي في المحاورات العلمية بل انتبهت إلى شيء أدق من ذلك وهو الجانب الطبيعي في الثيولوجيا عند المتكلمين، وبالخصوص نظرية الجزء الذي لا يتجزأ، وقد انتبه ابن تيمية أيضا إلى ذلك كما في (الدرء).
8وليس يخفى أنه كان لمدرسة ابن تيمية السلفية وتلامذته تواجد معتبر في المغرب أيام الدولة المرينية كما ذكر العلامة المنوني رحمه الله .

الخلاصة
تبين مما سبق
:
– أن المدرسة السلفية مرت بمرحلتين سواء المشرقية منها والمغربية، المرحلة الأولى مرحلة الردود النصية والتوقف عن الخوض بالحجاج الجدلي في المناظرات الكلامية، والمرحلة الثانية مرحلة الردود الكلامية والعقلية بموازات مع الطريقة التقليدية الأولى.
– وأن السبب الدافع لتحول خطابهم الفكري شراسة شبهات المخالفين لها وحرص أصحابها على إظهارها.
– أن منظري المدرسة السلفية لم تكن تعوزهم الكفاءة الكلامية للرد للحجاج الجدلي.
– أنهم كان يعتمدون على المنطق القرآني المعصوم في أصوله وشكله.
– أنه وصل الأمر ببعضهم إلى إثبات بعض الصفات الإلهية بالعقل.
– أن المدرسة السلفية لم تكن مهدرة للعقل، إنما وضعته في مكانه واستعملته بشروطه بل وأحسنت استعماله إلى أقصى الحدود.
– أن المزج بين الدليل النصي والدليل العقلي ليس خاصا بالمتكلمين ولا بالأشاعرة كما ذكر بعضهم؛ بل هو مشترك بينهم جميعا وإنما الفرق في العلاقة بينهما كما سبق وحرر إن شاء الله.
فينبغي لأتباع هذه المدرسة أن يتبعوا سبيل منظري المدرسة في إعطاء العقل فرصته في الذب عن العقيدة والشريعة، وقد وفق كثير منهم لذلك فأثروا الفكر الإسلامي وأسهموا إسهاما واضحا في ترسيخ العقيدة الإسلامية في النفوس والله المستعان.
هذا جهد بذلته في محاولة؛ بينت من خلاله حقيقة مكانة العقل في الفكر السلفي لم أقصد فيه الاستيعاب فإن ذلك يحتاج إلى ملكات علمية ومنهجية أفتقر إليها، ولعل ما أقدمه بين يديكم يكون قالبا أوليا لدراسة أوسع وأشمل وأكثر احتراما لمنهجية البحث العلمي.
وقد حاولت التزام الموضوعية ما استطعت كما نبهنا الأستاذ جمال علال البختي حفظه الله، وقد لاحظت بنفسي الأثر الناتج من التزامها في البحث عند القارئ له.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
———————–
1- جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي (2/218/دار الثقافة)
2- (منهج القاسمي في تفسيره محاسن التأويل/ص120) المنشور ضمن مجلة الجامعة الإسلامية (المجلد 11/العدد1/2003م)
3- عنوانه الكامل: الرِّياض الناضِرة والحدائِق النيِّرة الزَّاهِرة في العقائدِ والفنون المتنوعة الفاخِرة
4- الرياض الناضرة (ص213/دار المنهاج)
5- هو ابن العلامة الفقيه سحنون تلميذِ ابن القاسم, ناظر شيخا معتزليا، فقال: يا شيخ ! المخلوق يذل لخالقه ؟ فسكت، فقال: إن قلت بالذلة على القرآن، فقد خالفت قوله تعالى: * (وإنه لكتاب عزيز)
6- قال الذهبي في السير (14/206) : كان من رؤوس السنة. قال ابن حارث: له مقامات كريمة، ومواقف محمودة في الدفع عن الإسلام: والذب عن السنة، ناظر فيها أبا العباس المعجوقي أخا أبي عبد الله الشيعي الداعي إلى دولة عبيد الله .
7-(المدارس الكلامية بأفريقية إلى ظهور الأشعرية/ص31-32/دار الغرب)
8-ورقات عن حضارة المرينيين (402 إلى 404)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *