توقفنا في العدد السابق عند أذكار الشاذلية، ونبسط الحديث في هذا العدد حول أذكار القادريين، فعلى القراء الأفاضل بكتاب «الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية»، فسوف يجدون في أوله مسمى «الغوثية»! أو مسمى «خطاب الحق لسيدنا عبد القادر»! وهو حوار جرى بين الله وبين الجيلاني (كلم الله بعد موسى عليه السلام)! على خلاف الحوار الذي جرى مباشرة بين التيجاني والنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة. ولا بأس إن نحن قدمنا بعضا من الحوار الذي قل نظيره بين العابد والمعبود! أو بين النسبي والمطلق! «الحمد لله كاشف الغمة، والصلوات على خير البرية (أما بعد) قال الغوث الأعظم (عبد القادر) المستوحش عن غير الله، والمستأنس بالله: قال الله تعالى: يا غوث الأعظم!!! قلت: لبيك يا رب الغوث، قال: كل طريق بين الناسوت والملكوت فهو شريعة!!! وكل طور بين الملكوت والجبروت فهو طريقة!!! وكل طور بين الجبروت واللاهوت فهو حقيقة!!! (هذا كلام الله أيها العقلاء؟!).
ثم قال: يا غوث الأعظم! ما ظهرت في شيء كظهوري في الإنسان (تجلى في صورته!!)، ثم سألت: يا رب هل لك مكان؟ قال لي: يا غوث الأعظم! أنا مكون المكان وليس لي مكان!!! ثم سألت: يا رب هل لك أكل وشرب؟؟؟ قال لي: يا غوث الأعظم: أكل الفقير وشربه أكلي وشربي! ثم سألت: يا رب: من أي شيء خلقت الملائكة؟ قال لي: يا غوث الأعظم! خلقت الملائكة من نور الإنسان، وخلقت الإنسان من نوري (ما مصدر هذا الهراء؟) ثم قال لي: يا غوث الأعظم: جسم الإنسان ونفسه وقلبه وروحه وسمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وكل ذلك طهرت له نفس! لا هو إلا أنا ولا أنا غيره»!
فنصل هكذا إلى الطامة الكبرى التي طالما وجدناها لدى الطرقيين الشاذليين والتيجانيين ولدى غير هؤلاء، إنها وحدة الوجود! فالله هو الإنسان، والإنسان هو الله! والأدب الصوفي المتصل بالتقسيم المتداول بين المشايخ، وجدنا الله عز وجل يؤكده لنا على لسان عبد القادر! نقصد الحقيقة والشريعة والطريقة! والملكوت والجبروت واللاهوت! دون أن نحدد هنا كل أنواع أذكار القادرية، منسوبة إلى مؤسس طريقتهم عبد القادر الجيلاني، أو منسوبة إلى غيرهم كالمسبعات العشر! وصلوات الكبريت الأحمر (ابن عربي الحاتمي)! وورد الحزب الصغير، وحزب النصر، ودعاء الجلالة، إلى آخر ما يشتغل به المريدون القادريون على مدى الأيام والشهور والسنين!
فيصح لدينا أن من أراد معرفة أوراد التيجانيين الرجوع إلى «جواهر المعاني»، وأن من أراد معرفة أوراد القادريين، أن يرجع إلى الكتاب المذكور قبله، ومن أراد معرفة أوراد الشاذليين بمختلف طوائفهم أن يرجع إلى كتاب «النفحة العلية في أوراد الشاذلية». فنكون قد حصرنا أوراد ثلاث مجموعات من الطرقيين بمغرب الأمس واليوم: الشاذليون الذين يمثلهم الدرقاويون، والكتانيون، والناصريون، والعيساويون، والحمدوشيون، والوزانيون، وغيرهم ممن لا ينتمون إلى الطريقتين القادرية والتيجانية؛ مع أن الاشتغال بالبدع يجمع بينها كلها بغض النظر عن أذكار مبتدعة ضلالية تعمل بها كل الفرق الصوفية بدون ما استثناء يذكر!
بل إن لدينا أكثر من دليل على أن الطرقيين غير ملزمين باتباع أي مذهب من المذاهب الفقهية! مما يعني أنهم في الوقت ذاته -وبصريح العبارة- غير ملزمين باتباع الكتاب والسنة! لأن جماهير المسلمين ما اقتدوا بكبار أئمتهم إلا لكونهم بكتاب الله وبسنة نبيه متشبثين، بينما يصر الطرقيون على التحرر من أية ضوابط يحددها هذا المذهب أو ذاك على الصعيدين النظري والتطبيقي، فضلا عن كونهم يزعمون بأنهم يأخذون مباشرة عن الله! (الجيلاني والغوثية)، أو مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وفي اليقظة (المسبعات العشر وصلاة الفاتح).
ورفض الطرقيين للانتماء المذهبي يترجمه قول الدباغ في «الإبريز»: «واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب، ولا يتقيد بمذهب من المذاهب، ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة! وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين! ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله لحظة! وحينئذ فهو العارف بمراد النبي صلى الله عليه وسلم، وبمراد الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها، وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه، وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته»!
ونفس هذه القناعة الدباغية أكد عليها التيجاني الطريقة عمر الفوتي، صاحب كتاب «رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم» المطبوع على هامش كتاب «جواهر المعاني»، حيث كتب يقول: «الفصل الثامن في إعلامهم أن الله تعالى لم يوجب على أحد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين لا يتجاوزه. وأن كل واحد من أئمة هذه الأمة رضي الله تعالى عنهم أجمعين تبرأ من ادعاء وجوب اتباعه هو وحده في كل مسألة من مسائل الدين دون غيره من الأئمة، لعلمهم بأن الاتباع العام لا يجب إلا للمعصوم»!
وهذا الكلام في ظاهره هو الحق الذي لا بد من اعتباره لدى كل من له من علوم الدين نصيب لا بأس به، لكن تطبيقه تعترضه صعوبات؛ فالغالبية العظمى من المسلمين ليسوا علماء، والعلماء باعتبارهم ورعين أتقياء، لا بد أن يحاولوا جهدهم التحلي بصفات الأنبياء الأربعة: الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة؛ بحيث يكون بمقدورهم التمييز بين أقوال الأئمة المعتبرين، ومدى ارتباطها بكتاب الله وسنة رسوله، فيختارون حينها عن وعي وتبصر، مَن مِن الأئمة يتخذونه قدوة، أي أنهم أحرار في الأخذ بهذا المذهب أو ذاك، بحيث إنهم يحذرون من الاقتداء بمن تأكد لديهم أنه يكتم ولو بعضا مما أنزل الله من البينات والهدى، إلى حد عنده يخالف أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته؟
ها هنا يفرض علينا هذا السؤال نفسه: هل يصح الاقتداء بمن ثبت أنه يشتغل بالمبتدعات المتقاطعة تماما مع سنن نبي الله ورسوله؟ أم إن علينا أن نستنكر استنكارا شديدا ما يشتغل به، ونقتدي بمن يرفضون صراحة وبصرامة كل مبتدع يخالف المسنون الذي عليه العلماء الغيورون حقا على الدين؟
لم يكن صلى الله عليه وسلم يذكر ربه على هيأة الاجتماع! ولا كان الصحابة والتابعون وكبار العلماء والأئمة يذكرونه كذلك! ولا كان يذكر ربه بالاسم المفرد «الله الله»، وبضمير الغائب «هو هو»، و«يا لطيف» إلى غيرها من الأذكار التي هي من وضع مشايخ الطرق المبتدعة، ولا كان الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة البارزين سيجيزون الادعاء بأنه صلى الله عليه وسلم يحدث أولئك المشايخ في المنام وفي اليقظة، بل إلى حد الادعاء بأنه صلى الله عليه وسلم يلقنهم أذكارا ذات أغراض مختلفة! فالتيجاني -كما قلنا- زعم أن الرسول في اليقظة هو الذي رتب له أوراده!! ونفس ما ادعاه، ادعاه مؤسس الطريقة الكتانية، مما يعني أنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، زاول مهمة اختيار الشيوخ وترتيب الأذكار التي عليهم الاشتغال بها بالكيفية التي حددها لهم إن في المنام وإن في اليقظة، فضلا عما يدافع عنه الشيوخ الصوفيون من قناعات يندى لها الجبين! كادعاء ابن عربي الحاتمي بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاه كتاب «فصوص الحكم» وأمره بتقديمه للناس كي ينتفعوا به! وكأن الرسول لم يبلغ كل ما أمر بتبليغه! كما ادعى ابن عربي أنه خاتم الأولياء! وهو نفس ما ادعاه غيره كالتيجاني والكتاني! وكأن لدينا خواتم الأولياء لا خاتم واحد! وهذا الخاتم المزعوم الذي ابتدعه «الحكيم الترمذي» مجرد ضلالة!!
والنتيجة المنطقية لما قدمناه باختصار، هي أن الطرقيين بالفعل بعيدون عن التمذهب بمذهب إمام سني ورع تقي، وأن شيوخهم -كما قال الدباغ- ليسوا في حاجة إلى أي إمام في الفقه خاصة، وفي الدين عامة، ما داموا يتحدثون إلى الرسول مناما ويقظة! وما داموا يأخذون عن الله مباشرة بدون ما واسطة! كحال الجيلاني الذي دخل في حوار مع الله، قدمنا بعضه في مسمى «الغوثية»! فيصبح من حقنا ومن واجبنا أن نحذر المسلمين -وفي مقدمتهم الحكام- من اتخاذ مشايخ الطرق أئمة، لأن في اعتبارهم كذلك، إساءة مباشرة إلى سنة الرسول الأمين من جهة، وإلى الدين كله من جهة ثانية!
وأنا هنا لا أملك غير مخاطبة المبتدعة والمروجين لبدعهم بقوله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد}.