وقفات تربوية مع بعض الوصايا النبوية -الحلقة الرابعة- ذ. محمد الدرداري

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فدلكم الرباط».(1)
لقد اشتمل هذا الحديث على مواعظ جليلة وفوائد ثمينة، منها:
– الفائدة الأولى: من موجبات رفع الدرجات في الجنة إكمال الوضوء وإتمامه
فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الوضوء شرطا للصلاة بقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين}(2) لذا وقبل أن نشرع في الصلاة لابد من الوضوء بغسل أعضاء مخصوصة، بكيفية مخصوصة، وعلى نحو مخصوص.
والوضوء المطلوب لابد أن يكون تاما غير منقوص، وإلا بطلت الصلاة وردت على صاحبها، بل إن المسلم مطالب بأدائه على وجهه الأكمل على الرغم من المكاره التي قد تعترضه كشدة البرد وألم الجسم.
إن إسباغ الوضوء كما يقول ابن عبد البر هو: «أن يأتي بالماء على كل عضو يلزمه غسله مع إمرار اليد، فإذا فعل ذلك مرة وأكمل فقد توضأ مرة»(3)؛ ويقول الإمام القاري: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ أي تكمِيلُهُ وَإِتْمَامُهُ بِاسْتِيعَابِ الْمَحَلِّ بِالْغُسْلِ وَتَطْوِيلُ الْغُرَّةِ وَتَكْرَارُ الْغُسْلِ ثَلَاثاً».(4)
والأمر بإسباغ الوضوء وبيان فضله جاء في أحاديث عدة منها:
– قوله عليه الصلاة والسلام: «من توضأ فأسبع الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة، فصلاها مع الإمام، غفر له ذنبه».(5)
– قوله عليه الصلاة والسلام: «من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من أظفاره».(6)
– قوله عليه الصلاة والسلام: «ما منكم من يتوضأ فيبلغُ -أو فَيُسْبغُ- ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء».(7)
– الفائدة الثانية: خطواتك إلى المسجد ترفع لك الدرجات وتمحو عنك السيئات
فالسعيد من سعد بالمشي إلى بيوت الله وداوم على ذلك، والشقي من تكاسل وتهاون، وقد كان صحابة النبي عليه الصلاة والسلام أحرص الناس على تكثير الخطى إلى المساجد، لِما علموا ما لذلك من الثواب العظيم والأجر العميم. فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: «كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له -أو قلت له-: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء؟ قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله».(8)
يقول بن عثيمين رحمه الله معلقا على هذا الحديث: «ففي هذا دليل على أن كثرة الخطى إلى المساجد من طرق الخير، وأن الإنسان إذا احتسب الأجر على الله كتب الله له الأجر حال مجيئه إلى المسجد وحال رجوعه منه».(9)
ولما أراد بنو سلمة -وهم قوم من الأنصار، كانت دورهم بعيدة عن المسجد- التحول من محلتهم إلى قرب مسجد النبي قال لهم عليه الصلاة والسلام: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؛ قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم»(10) قالها مرتين «وبين لهم أن لهم بكل خطوة حسنة أو درجة».(11)
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة».(12)
– الفائدة الثالثة: من الجهاد تعلق القلب بالصلاة وانتظارها المرة تلو المرة
ومما ورد في الحديث أعلاه قوله عليه الصلاة والسلام: «وانتظار الصلاة بعد الصلاة» قال المظهري: «أي إذا صلى بالجماعة ينتظر صلاة أخرى يتعلق ذكره لها، إما بأن يجلس في المسجد ينتظرها، أو يكون في بيته، أو يشتغل بكسبه وقلبه متعلق بها ينتظر حضورها، فكل ذلك داخل في هذا الحكم»(13) ويؤيده حديث: «ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه».(14)
وفي هذا المعنى يقول ابن العربي: «وانتظار الصلاة بعد الصلاة أراد به وجهين، أحدهما: الجلوس في المسجد، وذلك يتصور عادة في ثلاث صلوات: العصر، المغرب، العشاء، فلا تكون بين العشاء والصبح؛ والثاني: تعلق القلب بالصلاة، والاهتمام بها والتأهب لها، وذلك يتصور في الصلوات كلها».(15)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) صحيح مسلم، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، حديث رقم: 251.
-(2) المائدة: 7.
-(3) الاستذكار، لابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421هـ، ج 2، ص: 302.
-(4) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1422هـ، ج 1، ص: 344.
-(5) صحيح ابن خزيمة، باب فضل المشي إلى الجماعة، حديث رقم: 1487.
-(6) صحيح مسلم، باب خروج الخطايا من ماء الوضوء، حديث رقم: 245.
-(7) صحيح مسلم، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، حديث رقم: 234.
-(8) صحيح مسلم، باب فضل كثرة الخطى إلى المساجد، حديث رقم: 633.
-(9) شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين، دار الوطن للنشر، الرياض، طبعة 1426هـ، ج 2، ص: 200.
-(10) مسلم، باب فضل كثرة الخطى إلى المساجد، حديث رقم: 665.
-(11) شرح رياض الصالحين، ج 2، ص: 197.
-(12) مسلم، باب باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، حديث رقم: 666.
-(13) نقلا عن: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 1424هـ، ج 1، ص: 557.
-(14) مسلم، باب فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم: 1031.
-(15) نقلا عن: قوت المغتذي على جامع الترمذي، للسيوطي، رسالة دكتوراه من إنجاز الباحث ناصر الغريبي، من منشورات جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1424هـ، ج 1، ص: 63.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *