نشر الدكتور الفاضل الخلوق طه عبد الرحمن وفقه الله كتابا جديدا سماه “ثغور المرابطة”، وجعل بعض فصوله لعرض أحداث الفتنة التي كانت بين الصحابيين الجليلين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم وعلى ما كتبه الدكتور ملاحظات منها أنه:
1- ادعى «منازعة معاوية بن أبي سفيان لعلي بن أبي طالب حقه في الخلافة».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هذا مخالف لما عليه المحققون كالجويني الذي قال في “لمع الأدلة”: «معاوية وإن قاتل عليا فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظانا منه أنه مصيب وكان مخطئا»، وأبي حامد الغزالي الذي قال في “الإحياء”: «وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة»، وأبي بكر المرادي المغربي الأشعري في “عقيدته”، قال شيخ الصوفية وإمام “العقل المؤيد” الشيخ عبد القادر الجيلاني في الغنية عن موقف معاوية من علي: «كان يعتقد صحة إمامته…»، والأصل في كل هذا ما ذكره يحيى بن سليمان الجعفي وغيره في كتاب صفين بسند جيد كما قال ابن حجر في “الفتح” عن أبي مسلم الخولاني «أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليا في الخلافة أو أنت مثله؟ قال: لا، وإني أعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليه أطلب دمه. فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي فامتنع معاوية»، بل قال الدكتور أكرم ضياء العمري في “عصر الخلافة الراشدة”: «كان معاوية يؤكد على هذا المعنى: ما قتلات عليا إلا في أمر عثمان» ونسبها إلى ابن أبي شيبة وحسن إسنادها.
2- وادعى «استنزال معاوية بن أبي سفيان للحسن بن علي» عن الخلافة.
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هذا غلط، فتنازل الحسن بن علي كان مراعاة لمصلحة حقن الدماء ولبشرى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين»، وقد كان حرص الحسن على الجماعة وكراهية الفرقة قديما، قال الدكتور أكرم ضياء العمري: «وقد حاول الحسن بن علي ثني أبيه عن الذهاب إلى العراق وهو يبكي لما أصاب المسلمين من الفرقة والاختلاف»، ونسب الرواية في ذلك إلى ابن أبي شيبة وحسن إسنادها، وقال شيخ الصوفية عبد القادر الجيلاني في الغنية: «وأما خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فثابتة صحيحة بعد موت علي رضي الله عنه وبعد خلع الحسن بن علي رضي الله عنهما نفسه من الخلافة وتسليمها إل معاوية لرأي رآه الحسن ومصلحة عامة تحققت له، وهي حقن دماء المسلمين وتحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه…» وذكر الحديث.
3- وادعى أن معاوية رضي الله عنه مارس التلبيس في خلافه لعلي وأنه خان الخلفاء قبله وخان الأمة وورث الخيانة في بني أمية.
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هذا اتهام ظالم للسيد الحليم معاوية رضي الله عنه، وكان الواجب في حقه التعظيم وحسن الظن والقول الجميل لا رميه بكل ذلك باعتماد ساقط الروايات وفاسدها، وما عرفنا اتهمه بالتلبيس والخداع إلا الشيعة والمعتزلة أمثال عبد الجبار في المغني، وثم خطورة في لوازم هذه التهم، فرميه بالخيانة تشكيك في أصل عدالته التي اعتمدها النبي صلى الله عليه وسلم في جعله من كتبة الوحي الأمناء عليه، وهذا تعديل نبوي لا يجوز معارضته، وكيف تقع الخيانة ممن استأمنه عمر على الشام، وأقره العبقري عثمان، ووصفه ابن عباس بقوله: «إنه لفقيه»، فهل خفيت مكامن الخيانة فيه عن رسول الله والخلفاء والصحابة رضي الله عنهم وعلمه غيرهم.
4- وادعى أن «الذي أحدث بدعة السب ليس إلا معاوية نفسه، فقد أمر بسب علي».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به: بل هذا خطأ، فلم يصح في هذا خبر يعتمد عليه، فلم يأمر معاوية بسب علي، وهو ما حققه الدكتور أمحزون في “تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة” وغيره.
5- وادعى أن معاوية رضي الله عنه كان «شديد الحرص على إهانة العزيز ومكبوت الرغبة في الثأر للماضي السحيق»، ويقصد الثأر لبني أمية من بني هاشم لسلبه إياهم الزعامة مع الإهانة.
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هذا حكم خطأ على النيات والمقاصد كان ينبغي أن يترفع عنه الدكتور خصوصا وأنه من مفتريات الشيعة والمعتزلة الذين فروه ولم يشكوا في ذلك كما فعل القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني.
6- ونسب لمعاوية رضي الله عنه قوله: «يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟ لكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد آتاني الله ذلك، وأنتم كارهون».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به: بل الرواية ساقطة، فقد رواها ابن أبي شيبة وغيره، وفي سندها سعيد بن سويد، وهو مجهول لا يعرف، ولا يتابع على روايته كما قال البخاري في التاريخ الكبير. ورواها ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناد فيه مجاهيل أيضا، وفيه عبد الملك بن عمير مضطرب الرواية كما قال الإمام أحمد، مختلط كما قال يحيى بن معين.
7- ونسب له قوله: « قد كان فيما قضاه الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض ولفت بيننا وبين أهل العراق فنحن من الله بمنظر».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل الرواية لا أصل لها، وأحال الدكتور على الإمامة والسياسة لابن قتيبة، والكتاب مكذوب على ابن قتيبة كما حققه صاحب “كتاب الإمامة والسياسة في ميزان التحقيق العلمي”.
8- وادعى أن معاوية قال: «إن أمر يزيد قضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هي رواية بلا إسناد في كتاب “الإمامة والسياسة” المنسوب كذبا للإمام ابن قتيبة.
9- وادعى -معتمدا على ما يذكر في قصة التحكيم من أخبار واهية- أن: «عمرو بن العاص.. ثبَّت معاوية خليفة بأخدع وسائل الكلام».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل لم يصح في هذا شيء، وقصة التحكيم كما يعتمدها الطاعنون خرافات تاريخية، قال المؤرخ المحقق الدكتور الصلابي في “حقيقة الخلاف بين الصحابة”: «جميع متون قصة التحكيم لا يمكن أن تقوم أمام معيار النقد العلمي، بل هي باطلة»، فهذا تحقيق مؤرخ، أما ذمه لعمرو بن العاص بالمخادعة في ذلك فظلم، فكيف يصح أن يقول هذا فيمن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «عمرو بن العاص من صالحي قريش»، وفي رواية «أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص»، وتراجع السلسلة الصحيحة للألباني.
10- وادعى أن معاوية كان «يمارس الإجبار في صورتين اثنتين: إحدهما صورة فكرانية تمثلت في القول بالجبرية الإلهية، إذ وظف مفهوم الجبر في سياسته، والجبر عبارة عن نفي الأفعال عن العباد ونسبتها إلى رب العباد، وادعى أن كل ما قام به من أعمال في نزاعه مع علي.. لم يكن له فيه اختيار وإنما كان قضاء وقدرا.. وقضي له بالخلافة له من غير سعي إليها».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هذا خطأ غريب، ويبدو أن الدكتور صدق الروايات الضعيفة وما قاله روجه وغيره مثل محمود إسماعيل في “مذاهب إسلامية في الميزان الحركات السرية في الإسلام”، والنشار في “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام”، والصحيح أن أول من نُسب إليه القول بالجبر الجهم بن صفوان، ولهذا يبدأ المتخصصون في المقالات وتاريخ الفرق بذكره أولا كما فعل الشهرستاني (548 هـ) في الملل والنحل والبغدادي في الفرق بين الفرق، وقد ظهرت بدعته بترمذ من بلاد العجم لا بالشام وفي آخر ملك بني مروان، كما يقول الشهرستاني لا في أوله! والدكتور في هذا موافق من غير قصد إن شاء الله -وهذا ظني به حفظه الله- للشيعة والمعتزلة، فقد قال أبو جعفر المازندراني الشيعي في “متشابه القرآن والمختلف فيه”: «أول من أظهر الجبر في هذه الأمة معاوية»!!
11- ورمى «أصحاب معاوية باستهتارهم بالقيم الدينية»،وكان فيهم صحابة فضلاء.
12- وادعى أن «يزيد قتل الحسين لينزع ما حقه أن يملكه من الإمامة على الأمة أو لأن ما يملكه من النسب النبوي فاته».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل هذه كذبة مشهورة على يزيد بن معاوية، يروجها الأخباريون، فليس هناك دليل معتبر يدل على ذلك، ثم إن يزيد لم يكن يريد نزع حق الحسين في الخلافة، لأن الحسين رضي الله عنه لم يكن له حق في ذلك بأي وجه، لأن الناس كانوا قد بايعوا يزيدا وفيهم صحابة، وأخشى أن يكون الدكتور قد وافق المعتزلة في دعاوهم كما قال عبد الجبار في المغني: «أما إمامة الحسين فثابتة عندنا.. وقد بويع له.. وثبت أنه أنفذ مسلم بن عقيل قبله إلى أهل الكوفة»!؟ وهذه خرافة، فأهل الكوفة بايعوا بعد أن بويع يزيد.
13- وأدعى أنه: «ظهر هذا الصراع الطائفي بظهور التحكيم وتدرج هذا الظهور في مراحل ثلاث لاحقها أشد ظلما من سابقها».
قلت: حفظ الله الدكتور ونفع الله به، بل ظهر هذا الصراع بعد مبايعة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما، فرماهما الشيعة السبئية بالتآمر على الإسلام وظلم آل البيت، قال صاحب “روضة الصفاء” الخونساري الشيعي: «قال عبد الله بن سبأ إن الأمة ظلمت عليا وغصبت حقه، حق الخلافة والولاية، ويلزم على الجميع الآن مناصرته ومعاضدته، وخلع طاعة عثمان وبيعته، فتأثر كثير من المصريين بأقواله وآرائه، وخرجوا على الخليفة عثمان»، نقلا عن توضيح النبأ عن مؤسس الشيعة عبد الله بن سبأ لعلي بن أحمد الرازحي.
أما التظلم الذي تحدث عنه الدكتور حفظه الله إن كان صحيحا والذي جعله أحد أسس نظريات الكتاب فكان ينبغي أن ينتهي بتسليم الحسن لمعاوية، لكنه سيتحول إلى ظلم وتطرف، والمعروف أنه قال الحسن لأهل الكوفة:«والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم، قالوا: ما هو؟ قال: تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت»، رواه ابن سعد في الطبقات بإسناد حسن كما قال الدكتور الصلابي، فلما خالفوه ونقضوا عهدهم له بعد موته؟ فإذا كان الأمر انتهى إلى هذا الصلح، فعن أي تظلم يتحدث الدكتور طه حفظه الله؟
هذا بعض من كل، ومعتصر من مختصر، كان قصدي به التنبيه على ضعف ما اعتمد عليه الدكتور طه في صياغة نظريات كتابه، مع احترامي للدكتور طه عبد الرحمن وتقبيلي رأسه لما بذله مشكورا في نصرة الإسلام ضد بني علمان، لكن الحق أحب إلينا، واعتقادي في الدكتور أنه يرجع عن موقفه هذا عند المراجعة، وإلا فكتاب الدكتور مبني على أسس هذه الروايات المردودة، وكما قال العلامة الآلوسي: «المذهب الذي أسس على الأخبار الكاذبة باطل من غير نكير».
وأذكر نفسي والدكتور طه حفظه الله -وهو صاحب الصدر الرحب في قبول النقد والتصحيح- بأن وجوب التثبت في هذه الروايات التاريخية من شأن أهل الخلق والمكارم، وهو من أهلهم إن شاء الله، وقد قال تعالى في سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». قال الفخر الرازي في مفاتيح الغيب عن سورة الحجرات: «هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق».
والحمد لله رب العالمين.