سؤال القيم في المدرسة المغربية.. حاوره: الحسين باروش

 رشيد البقالي*: أي إصلاح تربوي يغفل الجانب القيمي من شخصية المتعلم من شأنه أن ينعكس سلبا لا على المتعلم فقط، بل على المنظومة التربوية وعلى المجتمع ككل

 أولا قبل طرح أسئلة تهم الموضوع بالذات هل لديكم تعريف جامع لمفهوم “القيم”؟

أشكركم بداية على اختيار هذا الموضوع المتعلق بالقيم في المدرسة المغربية، فهو موضوع في غاية الأهمية، إذلم يعد الحديث في الأدبيات المعاصرة عن القيم من قبيل الترف الفكري أو الموضة الجديدة التي نتجت عن تداول مفاهيم جديدة مرتبطة بالصراع الحضاري، وخطر العولمة على ثقافة المجتعمات وخصوصياتها القيمية والأخلاقية.

إن الحاجة إلى مدارسة القيم وبيان أهميتها الحضارية والدينية والتربوية ظهرت نتيجة لكثير منالتناقضات التي تطبع مسار الإنسان وهو يبحث عن تحقيق الكمالالممكن، ومن منطلق مسؤوليته باعتباره كائنا أخلاقيا في المقام الأول، يطرح سؤال القيمفي بناء وتصحيح هذا المسار من جهة، وفي تذكير الإنسان بمسؤوليته في الاختيار والرفض والتصنيف من جهة ثانية.

وقضية القيم هي أكثر من كونها تأملات في مسار الفكر الإنساني؛ بل هي قضية الهوية وقضية المؤسسات، وقضية المرجعيات، وقضية التربية، وقضية الأخلاق والقانون.

– إن القضية القيمية قضية كبرى تواجهها التربية قديماً وحديثاً في كافة مجالاتها، وهي تناقش على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، حيث تتعالى صرخات ونداءات اليقظة للاهتمام بمنظومةالقيم وإعادة تشكيلها عند الإنسان المعاصر، لما يلاحظ من سيادة القيم المادية والفردية على أنماط حياته وتفكيره وسلوكه بكل ما تحمله هذه القيم -في كثير من الأحيان- من عشوائية، وعدوانية، وتطرف، وابتعاده عن معايير السلوك الأخلاقي القويم، وإهمال معايير الحق والفضيلة والإحسان، وظهور المفاهيم المقلوبة والمصطلحات المشوهة، والسلوكيات المهزوزة، حيث يرى معظم علماء التربية بل معظم الناس بأن هذه هي الأزمة القيمية.

  • والتربية في جوهرها عملية قيمية، مادام هدفها تنمية الفرد والجماعة إلى مستويات نحو الأفضل، عن طريق الاكتمال، والنضج، والتهذيب، والتثقيف المستمر المتواصل.
  • فالتربية هي وسيلة المجتمع وأسلوبه الذي يكتسب من خلالها الأفراد طرائق الحياة،والقيم واتجاهات المجتمع الذي يعيشون فيه.

وفي ما يتعلق بتعريف القيم، يمكن القول أن ذلك ليس بالأمر السهل، بل هو من الأمور الشائكة على المستوى المنهجي، وذلك: “لما تتصف به القضية القيمية من عمق معرفي وثقافي وإيديولوجي، فنحن عندما نتحدث عن القيم فإننا ننطلق من ثقافة معينة تنتظم القيم في سلكها، وتدور في دوائرها فالتعاليم الدينية والرؤى الفلسفية والتربوية والسياسية والاقتصادية تعد كلها أصولا فكرية تحكم تفاعلنا مع القضية القيمية”.

ويمكن تحديد القيم في كونها: “مجموعة من المعايير والأحكام،تتكون لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية، بحيث تمكنه من اختيار أهداف وتوجهات لحياته، يراها جديرة بتوظيف إمكانياته، وتتجسد خلال الاهتمامات أو الاتجاهات أو السلوك العملي”.

كما يمكن أن نحددها بأنها: “المبادئ والمعتقدات الأساسية، والمثل، والمقاييس التي تعمل مرشدا عاما للسلوك، أو نقاط تفضيل في صنع القرار، أو لتقويم المعتقدات والأفعال، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالسمو الخلقي والذاتي للأشخاص”.

وأرى أن من أدق التعاريف للقيم ما أورده أحد الباحثين بقوله بأنها: “معايير عقلية ووجدانية تستند إلى مرجعيات حضارية، تمكن صاحبها من الاختيار بإرادة حرة وواعية وبصورة متكررة نشاطا إنسانيا يتسق فيه الفكر والقول والفعل، يرجحه على ما عاداه من أنشطة بديلة متاحة فيستغرق فيه، ويسعد له ويحتمل فيه ومن أجله أكثر مما يحتمل في غيره دون انتظار لمنعة ذاتية”.

 

  • مدخل القيم هل يمكن أن نعتبره لبنة أساسية لإصلاح منظومة التربية والتكوين؟

يعد تطوير المنظومة التربوية عموما، والتعليمية منها على وجه الخصوص، والارتقاء بكفاءتـها من أهم القضايا التي تـهم جميع المجتمعات، لما لذلك من الدور الكبير في رقي وبناء المجتمع وبناء الإنسان القادر على التعامل مع معطيات العصر، وما يشهده من تغيرات وتطورات متسارعة، ولا خيار أمامنا في ظل هذه التحديات إلا بناء الإنسان باعتباره وسيلة التنمية، وغايتها المنشودة.

من هذا المنطلق تأتي أهمية وضرورة إحداث نقلة نوعية في مجال التعليم، تتجاوز المفاهيم والممارسات التـقليدية، التي تغلب جانب بناء المعارف، وتنمية المهارات والانطلاق بها إلى آفاق أرحب بمفاهيم عصرية باتت تفرض نفسها.. وتأخذ قضية التربية على القيم وإدماجها في البرامج والمناهج الدراسية، الأولوية بين هذه المفاهيم.

ثم إن الدراسات التربوية تتفق على أن شخصية المتعلم تتكون من ثلاثة جوانب؛ هي: الجانب المعرفي، والجانب المهاريّ، والجانب القيمي/الوجداني الانفعالي، وأن على التربية أن تقوم بمهمة تحقيق التوازن بين المكونات الثلاثة في تكامل وانسجام لبناء شخصية سوية ومتوازنة، وإن أي تغليب لمكون على الآخر ينتج عنه حتمًا اضطراب في شخصية المتعلم.

 ولذلك فإن أي إصلاح تربوي يغفل الجانب القيمي من شخصية المتعلم، ولا يوليه العناية اللازمة، من شأنه أن ينعكس سلبا لا على المتعلم فقط، بل على المنظومة التربوية وعلى المجتمع ككل.

 

  • في رأيكم ما هي المرتكزات التي اعتمدتها الوزارة الوصية لتنزيل القيم؟

حظيت القضية القيمية بمكانة بارزة في منظومتنا التربوية بالمغرب -على الأقل في الجانب النظري-، والذي يطلع على الوثائق المؤطرة لها سيلمس ذلك بأدنى جهد، بدءا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، ومرورا بالكتاب الأبيض وانتهاء بالرؤية الاستراتيجية 2030، دون غفلة عن عدد كبير من المذكرات الوزارية وتقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في هذا الشأن.

فقد أشار الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مرتكزاته الثابتة، إلى مركزية القيم في الإصلاح التربوي من خلال بيان اهتداء “نظام التربية والتكوين للمملكة المغربية بمباديء العقيدة الإسلامية وقيمها الرامية لتكوين المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح، المتسم بالاعتدال والتسامح الشغوف بطلب العلم والمعرفة، في أرحب آفاقها، والمتوقد للاطلاع والإبداع، والمطبوع بروح المبادرة الإيجابية والانتاج النافع”.

 وفي الغايات الكبرى تحدث عن “تنشئة المتعلمين على الاندماج الاجتماعي، واستيعاب القيم الدينية والوطنية والمجتمعية” مؤكدا في نفس الآن أنه ينبغي لنظام التربية والتكوين أن ينهض بوظائفه كاملة اتجاه الأفراد والمجتمع وذلك بمنح الأفراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية”.

ولعل تركيزالميثاق على القضية القيمية، في مواضع كثيرة منه، يدل على مركزيتها في الفعل التربوي، وقد تأكد ذلك في الكتاب الأبيض الذي تناول موضوع القيم في فقرة الاختيارات والتوجهات التربوية العامة بتفصيل أكبر حيث صرح “باعتماد التربية على القيم وتنمية وتطوير الكفايات التربوية والتربية على الاختيار كمدخل بيداغوجي لمراجعة مناهج التربية والتكوين”، واعتبر “المدرسة مجالا حقيقيا لترسيخ القيم الأخلاقية وقيم المواطنـة وحقوق الإنسان وممارسة الحياة الديموقراطية”، وقد حدد بتدقيق “الاختيارات والتوجهات في مجال القيـم انطلاقا من القيم التي تم إعلانهـا كمرتكزات ثابتة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والمتمثلة فـي:

  • قيـم العقيدة الإسلامية؛
  • قيـم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية؛
  • قيـم المواطنـة؛
  • قيـم حقوق الإنسان ومبادئها الكونيـة.

كما عمل الكتاب الأبيض على ربط القيم بحاجات المتعلمين، والتي سيعمل نظام التربية والتكوين بمختلف الآليات والوسائل على الاستجابة لها كـ: الثقة بالنفس والتفتح على الغير والاستقلالية في التفكير والممارسة؛ التفاعل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي على اختلاف مستوياته والتحلي بروح المسؤولية والانضباط..

كما أن التقارير الصادرة في هذا الشأن، وخاصة “تقرير التربية على القيم بالمنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي “الصادر عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، تشكل طفرة نوعية من حيث الاعتراف بالصعوبات التي تواجه منظومة القيم، كخطوة مركزية لبناء استراتيجيات الإصلاح، كما أن الأفق المنفتح الذي جاءت به الرؤية الاستراتيجية 2030 في مجال التربية على القيم خطوة كبيرة وبارزة من أجل إقرار مدرسة مواطنة غايتها تربية النشءعلى تقدير الذات واحترام الغير وإشاعة سلوكات التعايش والتسامح والتضامن والتربية على الديمقراطية والسلوك المدني باعتبار كل ذلك خيارا استراتيجيا لا محيد عنه، كما أكدت على ضرورة الانفتاح على القضايا الحضارية الكونية مع الحرص على انسجامها في مواقف المتعلمين وسلوكاتهم مع مقومات الهوية الوطنية، كما عملت الرؤية الاستراتيجية على توسيع مساحة الحرية والإبداع والابتكار داخل المؤسسات التعليمية من خلال الدعوة إلى توفير فضاءات مدرسية من شأنها تجسيد وتنمية الممارسات الديمقراطية والمدنية، والأهم من ذلك التنصيص على إدماج المقاربة القيمية في صلب المناهج والوسائط التعليمية.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* مفتش تربوي  بوزران وباحث متخصص في التربية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *