تزكية النفوس وإصلاحها

لا شك أن الطريق إلى الله تعالى هو سلوك صراطه المستقيم، الذي بعث الله به رسوله عليه الصلاة والسلام وأنزل به كتابه، وأمر الخلق كلهم بسلوكه والسير عليه، ولا ريب كذلك “أن جمع القلب على الله تعالى، وعلى مراده منا، ونسيان ما سوى ذلك: هو مراد الأنبياء والأولياء” الأمر بالعزلة لابن الوزير رحمه الله.

وتحصيل ذلك كله وتحقيقه ليس سهلا، إذ لا بد فيه من مراعاة حال القلب والنفس وملاحظتهما والسعي دوما في إصلاحهما وصيانتهما عما يفسدهما من المعاصي والذنوب..، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتزكية النفوس، ومجاهدتها على ذلك فإن “تزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد” إغاثة اللهفان لابن القيم رحمه الله.

زكاة النفس وعلاقتها بمعرفة الله تعالى
حقيقة هذه الزكاة معرفة العبد لربه جل وعلا، وهي المعرفة الخاصة كما قال العلامة محمد بن علان رحمه الله في دليل الفالحين: “معرفة العبد لربه ضربان:
– المعرفة الأولى: عامة.
وهي: الإقرار بوحدانيته وربوبيته والإيمان به.
– والمعرفة الثانية: خاصة.
وهي: الانقطاع إليه والأنس به، والطمأنينة بذكره والحياء منه، وشهوده في كل حال.
ومعرفة الله تعالى لعبده كذلك ضربان:
– المعرفة الأولى: عامة.
وهي: علمه بعباده واطلاعه على أعمالهم.
– والمعرفة الثانية: خاصة.
وهي: محبته لعبده، وتقريبه إليه، وإجابة دعائه، وإنجاؤه من الشدائد، فلا يظفر بهذه الخاصة إلا من تحلى بتلك الخاصة”.
وعليه كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: “اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها” رواه مسلم وغيره.

حقيقة تزكية النفس
والزكاة في اللغة النماء، والزيادة في الصلاح، يقال: زكا الشيء إذا نَمَا في الصلاح، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى تزكية النفس شرعا ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: “ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهَرِمة ولا الدَّرنَة ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها وزكَّا نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان” الصحيحة.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى الخصال الموجبة لذوق طعم الإيمان، وفسر التزكية بإحدى مراتب الإحسان وهو أن يعبد العبد ربه على أنه يراه مطلع على سره وعلانيته.
فكل من القلب والنفس يحتاج أن يتربى فينموا ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولا بدَّ مع ذلك من منع ما يضره، فلا ينموا البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلوب والنفوس لا تزكوا فتنموا ويتم صلاحها إلا بحصول ما ينفعها ودفع ما يضرها.
ومن أجله كانت القاعدة في الباب: التخلية قبل التحلية، ومن عظيم ما جادت به قريحة العلماء ما نقله الإمام ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله حيث قال: “وسمعته يقول في قول النبي: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة): إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز و جل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة ” المدارج.
ولما كان “طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة.. يحتاج أن يكون عارفا بطريق الوصول إليه، والطرق القواطع عنه “كما في كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله احتاج القائم على تزكية نفسه إلى”القوة العلمية”، بشرط أن يبنى ذلك على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “العلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فمن بنى الإرادة والعبادة والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد أصاب طريق النبوة وهذه طريقة أئمة الهدى” الفتاوي.

القوة العلمية والعملية
لما كان “العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار، فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له” كما في طريق الهجرتين لابن القيم رحمه الله كان في حاجة إلى “القوة العملية”، بشرط أن يتلقى ذلك من هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال ابن القيم رحمه الله: “..وتزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إيَّاها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم..
..فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان” المدارج.

قال الناظم:
والشّـَرْطُ في جِهادها السّـنِـيِّ *** وِفَاقُــه لسٌنـــة النَّبـي.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “السائر إلى الله والدار الآخرة بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين:
قوة علمية.
وقوة عملية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرا فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضا أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين أعلام الطريق ومعاطبها.
وبالقوة العملية يسير حقيقة بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر وكذلك السائر إلى ربِّه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه، ويشمر مسافرا في الطريق قاطعا منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل، فهانت عليه مشقة السفر” طريق الهجرتين.
وعليه فلا تطيب الحياة الدنيا إلا بإصلاح النفوس وتزكيتها، كما لا تطيب الآخرة في الجنة إلا برؤيته والنظر إليه سبحانه وتعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *