من أسباب الثبات على الاستقامة محمد أبو الفتح

عرفنا من خلال المقال السابق أن من أسباب عدم الثبات على الاستقامة اقتراف المعاصي والاستهانة بها، وفي مقال هذا الشهر نتطرق إلى الأسباب التي تعين العبد على الثبات على الاستقامة وهي كثيرة بحمد الله، جِمَاعُها المبادرة إلى الطاعات والقربات من الواجبات والمستحبات، قال الله تعالى: “وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتا، وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً” (النساء)، فرَتَّب الله تعالى على طاعة أمره فوائد دنيوية وأخروية من بينها حصول التثبيت والهداية إلى الصراط المستقيم، قال الشوكاني رحمه الله تعالى: “(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ) من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم (لَكَانَ) ذلك (خَيْراً لَّهُمْ) في الدنيا والآخرة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتا) لِأقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم (وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً)، أي: وقت فعلهم لما يوعظون به (وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أُمر به وانقاد لمن يدعوه إلى الحق” (فتح القدير)، وقال الشيخ ناصر السعدي: “ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به وهو أربعة أمور:
1- الخيرية..
2- حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب..
3- “وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً” أي: في العاجل والآجل..
4- الهداية إلى صراط مستقيم..” (تيسر الكريم الرحمن).
وهذا الأمر الرابع يتفق مع قوله تعالى: “وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى” مريم، وقوله: “وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ” محمد، فمن اهتدى وعمل صالحا فإن الله تعالى لا يثبته فحسب؛ بل يزيده هدى إلى هداه، وقد جاء تأكيد هذا المعنى في بعض الطاعات مثل:
– الصلاة: فإن الله تعالى قال فيها: “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ” العنكبوت، ومعنى إقامة الصلاة أداؤها على الوجه المطلوب شرعا، فمن أدَّاها كما أمره الله تعالى وحافظ على أوقاتها وأركانها وواجباتها وخشوعها نهته عن المنكر، وبطريق اللزوم كانت سببا في ثباته على المعروف، لأن من المعروف ما يكون تركه منكرا، وهو الواجب. ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر دلَّ ذلك على أنه لم يقمها على الوجه المطلوب.
-الجهاد: قال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” العنكبوت، وأفضل الجهاد وأعظمه جهاد النفس بحملها على طاعة الله وكفها عن الشهوات، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل” (السلسلة صحيحة 1496)، لذا كان الجهاد بالسلاح فرع عن جهاد النفس، فلن يستطيع بذل النفس في سبيل الله سبحانه وتعالى من لا يستطيع مخالفة هواه.
– ذِكرُ الله تعالى: للذِّكر أثر عظيم في تقوية القلب وتثبيته، لذلك أمر الله به عند ملاقاة الأعداء فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ” الأنفال، بالإضافة إلى كونه حرزا وحصنا حصينا من الشيطان.
– قراءة القرءان بتدبر: قال تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً” الفرقان، فقراءة القرءان وتدبر معانيه من أعظم أسباب الثبات على الاستقامة، وذلك لما فيه من كشفٍ للشبهات، وقمعٍ للشهوات، فكل انتكاس عن الصراط المستقيم فإنما يرجع إلى أحد هذين الأمرين: الشهوات والشبهات، والقرءان فيه شفاء من الأمرين معا كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” يونس.
-الاجتهاد في نوافل العبادات: كما يدل على ذلك الحديث القدسي الذي قال فيه رب العزة: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنـَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته” (أخرجه البخاري)، وقد فسر العلماء قوله تعالى في الحديث: “كنت سمعه الذي يسمع به..”، بتسديد الله تعالى للعبد في جوارحه، وتوفيقه إلى إعمالها في ما يرضي الله تعالى، بسبب اجتهاد العبد في التقرب إلى مولاه بنوافل العبادات والقربات.
– طلب العلم الشرعي: فالانشغال بطلب العلم يصرف المسلم عن سفاسف الأمور، ويمنعه من الانغماس في وَحَلِ الشهوات والمعاصي والفجور، كما يخلصه من براثن الشبهات والضلال وسائر الشرور، قال صلى الله عليه وسلم: “ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة” (مسلم)، وطريق الجنة هي طاعة الله والاستقامة على دينه، فمن طلب العلم يبتغي به وجه الله وفقه الله وهداه، وثبته على الخير حتى يلقاه.
– حضور مجالس الذكر والمواعظ: قال تعالى: “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ” الذاريات، فقلب المؤمن حي لكنه ينسى فإذا ذُكِّر بالله ذكر، كما قال تعالى:” إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ” الأعراف.
– قراءة قصص الأنبياء وسير الصالحين: فإن في قصصهم عبرة لمن اعتبر، وفي ثباتهم على الحق أسوة لمن عقل، كما قال تعالى: “وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ” هود، بالإضافة إلى أن الاطلاع على أعمالهم واجتهادهم يجعل العبد يحقر نفسه وعمله، فينجو بذلك من داء العجب والغرور.
– الدعاء بالثبات: فليس أحد يستغني عن تثبيت الله وتأييده بعدما قال الله تعالى لنبيه :”وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً “الإسراء، وهذا إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول متضرعا إلى ربه: “وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ” إبراهيم، وهذا شعيب عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: “قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ” الأعراف، فلم يأمن على نفسه الضلالة بعد الهدى، وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام يقول داعيا ربه: “تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” يوسف، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في دعائه: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك” أخرجه الترمذي عن أنس وصححه الألباني.
فهذه بعض أسباب الثبات على الاستقامة، نسأل الله تعالى أن يحيينا ويميتنا عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وللحديث بقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *