فوجئت أثناء إعداد هذا المقال، بصدور نسخة باللغة الماليزية، لكتاب الدكتور محمد الفايد حفظه الله “النظام الغذائي الإسلامي”، ففرحت فرحا كبيرا بهذا، وقد كنت أفكر في التواصل معه بشأن ذلك، لأسأله سؤال واحدا، هل هناك نظام غذائي إسلامي، بالمعنى العلمي للعبارة؟ وكان جوابه بالإيجاب يعني لي الانتقال إلى سؤال أكبر هو، هل هناك فكر غذائي إسلامي؟ وجوابي الآن بعد أن ظهر جواب الدكتور محمد، نعم، هناك فكر غذائي في الإسلام، فما حقيقته، وما هي مسائله، وأصوله، ومصادره، وصوره؟ وما الذي يميزه عن مفهوم “النظام الغذائي”؟
سأحاول في هذا المقال الإجابة بنوع من الاختصار، تتميما لمقاصد كتاب الدكتور الفايد، الذي نعرف أصول مضامينه وبعض تفاصيله بعد أن تابعناه لساعات على قناته خاصة.
نعني بالفكر شيئين، عملية التعقل والنظر والتحليل والتركيب، ففي “الفكر” معنى “الفرك” بالأصابع للشيء عند إرادة معرفة طبيعته ورائحته، ثم ما ينتج عن ذلك من معارف ونظريات، والذي يهم في ذلك كله الجانب العملي، الذي يتحمل مقاصد الجانب النظري في جلب المصالح الدنيوية والأخروية ودفع ضدها.
ونعني بالغذاء، كل ما يستعمله الإنسان أكلا أو شربا مما يفيد النمو والصحة للبدن، وفي لغة الشرع “إقامة الصلب“، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لقيمات يقمن صلبه»، فيكون معنى الفكر الغذائي، المعارف والنظريات، وما يقوم عليها من تأمل وتحليل متعلق بأنواع الغذاء ومكوناته الطبيعية، وطرق الانتفاع به، فإذا أضيف إلى الإسلام، عنى أن كل ذلك وفق ما في كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما يوافق الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
الغذاء جزء من حياة الناس لا ينفكون عنه، وقد بدأت علاقة الإنسان به منذ آدم عليه السلام وزوجه، إذ أمرا بالأكل مما في الجنة رغدا، ونهيا عن قربان شجرة واحدة لئلا يكونا من الظالمين، الموقِعين الأمر في غير موضعه، المتصرفين في ما لم يؤذن لهم فيه، ثم استمر أمر بني آدم على علاقة وجود مع الغذاء، فمع ما كان عنده من العلم النبوي فيه، ازداد معرفة وخبرة عن طريق الاكتشاف والتجربة، وتوسعت دائرة غذائه وتنوعت، والعجيب في هذا كله، أن الأنبياء كانوا دائما يبعثون بما يصلح دين الناس ودنياهم، وكان بيان النظام الغذائي الذي ينبغي اتباعه وموافقته جزءا من ذلك.
للغذاء جهتا نظر وتأمل، الأولى من جهة كونه نعمة من نعم الله التي أراد الله من عباده أن يستمتعوا بها استمتاع الشاكر المستزيد، بطريق التوسط والاعتدال الذين أوجبهما الشرع والعقل الفطري، والجهة الثانية أن الغذاء وسيلة لإقامة الأبدان والأصلاب التي أعدت للعبادة وإعمار الأرض، والغذاء من هذه الجهة نوع من المال الذي يقصد الشرع إلى حفظه، ووسيلة لحفظ العقل والنفس والنسل، ثم لحفظ الدين والتدين والعبادة في الأرض.
أقيم النظام الغذائي الإسلامي على قصد الاستفادة من الطيبات ودفع الخبائث، فحرم الشرع بعض أنواع المأكولات عامة على الإنسان خاصة، كالميتة ولحم الخنزير، لما فيها من ضرر ثابت بالعلم والتجربة، ونهى عن أخرى لإفسادها مقصود توحيد الله تعالى كما في الذبح لغير الله أو الذبح على النصب للأموات والأضرحة والأشجار وغيرها من آلهة الباطل عند كثير من الناس.
من أهم مميزات الفكر الغذائي الإسلامي تحقيق المرتبة العليا في التحرر، فحينما يتيقن الإنسان من أن الغذاء من الله تعالى، يصحح وجهته وقصده عند النظر والفعل، ومن يتتبع النظام الغذائي الإسلامي يكتشف أنه يجعله في منطقة تحرر معصومة عن “الاستغلال” و”الاستعباد” و”التبعية“، فحينما أمر الإنسان بالصيام، فإنه تعلم منه القدرة على “ترك” الغذاء لأن الله يريد ذلك، ثم لما يمكن أن يكون في “ترك الغذاء” مدة من الزمن من فائدة على البدن بعكس ما قد يبدو ظاهرا، من أن الترك مضر، لأنه يخالف المقصود من “الغذاء“، ولذلك يستطيع “الصائم” في غير وقت الصيام أن يترك “بعض الغذاء” طلبا للتحرر من سلطة “الرغبة” في الأكل والشرب، ويتحصل بعد كل ذلك على “عقل” يستطيع أخذ القرار السليم الذي يعود على بدنه بالنفع ودفع الضرر عنه ـبعيدا عن سلطة صناع “المعلبات“.
تتنوع المأكولات في الطبيعة في ظاهرها شكلا ومذاقا ولونا ورائحة، وهو مقصد خَلقي يوحي بالتنوع باطنا أيضا، وهو ما اكتشفه العلم، فمهما اختلف التركيب الظاهر اختلف التركيب الباطن، ولو بنسب قليلة، وكلما اشتد الفرق في الظاهر اشتد في الباطن، ولذلك صنف الغذاء في مجوعات يعرفها أهل الشأن، وهو مما يحرص الدكتور الفايد على ذكره كثيرا، وقد استطاع أن يجعل ضروريات هذا العلم في أيدي الناس لينتفعوا.
كانت أول محاولة إبليسية لإفساد حياة الإنسان مع آدم وزوجه في غذائه، فوسوس لهما بالأكل مما يضرهما ولا ينفعهما، مُوِهما لهما عكس ذلك، تزيينا وتجميلا، بطريق “المعلومة الخطأ“، وقد استمرت هذه العملية الإبليسية إلى اليوم، وها نحن أمام ترسانة كبيرة، ومؤسسات عملاقة، ورأس مال ضخم يروج لنظام تغذية وأغذية تضر ولا تنفع، بدعوى أن ذلك تحديث وتطور في الحياة الإنسانية، وبعد إفساد البيئة، وصلنا إلى مرحلة إفساد عقل وبدن الإنسان، وما يهلكنا في ذلك إلا “خطوط الإنتاج“، وهي خطوط لإنتاج الاستعباد لأمم من الناس، حولتهم إلى “مستهلكين” لما يضرهم، والدكتور الفايد ممن جند نفسه للتحذير من هذا الاستعباد الضار، وللتحرر من التبعية في “النظام الغذائي” إلى أصالة في الشرع والعقل الفطري.
يقوم الفكر الغذائي في الإسلام على “احترام الغذاء” و”تقديره“، ويظهر ذلك في حسن معاملة الحيوان المأكول لحمه، وحسن ذبحه، وإلا صيده، وذكر الله تعالى عند ذلك كله، ثم في طريقة الأكل، في هيئة الجلوس، وهيئة الأخذ من الصحن مما يلي الإنسان، وباليمين تشريفا، ثم أكل كل الطعام، بأصابع ثلاثة ولعقها، حرصا على البركة المودعة فيه، ثم حمد الله تعالى على كل ذلك، خلاف ما يقع من الإنسان “المتحضر” من رمي للطعام في المزابل، أو إغراقه في البحر طلبا لرفع الأثمان، واللعب به في الأفلام.
جعل الله الغذاء الحلال الذي يؤخذ من جهته المأذون فيها، دون ظلم ولا عدوان، شرطا في استجابة الدعاء، وهذا أرقى ما يمكن أن يمثله الغذاء في الثقافات الإنسانية، وقد ورد في الشرع أن البدن الذي غذي بالحرام والسحت، النار أولى به، ففي الغذاء من بركات الله وفضله أسرار قد نعرف بعضها ويخفى عنا أكثرها، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وليس الخبر كالمعاينة.
الدعوة إلى إصلاح نظامنا الغذائي يبدأ من إصلاح فكرنا الغذائي، وإصلاح معارفنا وقناعاتنا ومعلوماتنا، ورد كل ذك إلى أصول من الوحي والعقل، كي لا نتصرف وفق ما تراه عيوننا، وتشمه أنوفنا وتجده ألستنا من المذاقات المغرية للأكل فقط، بل نستعمل عقولنا، ونرفع عنها حجب الإغراء الظاهر، ونلج إلى ما وراء ذلك من معرفة مكونات الغذاء، ومقاصدها ومنافعها، وكيفية الاستفادة منها، ما نحتاج اليوم أن يكون “النظام الغذائي” جزءا من “نظامنا التربوي” في المقررات الدراسية، يتعرف الطفل – ذكرا وأنثى – بها من السنة الأولى على غذائه، وعلى مكوناته ومنافعه، ويتعلم كيف “يتغذى” غذاء ينفعه ولا يضره، وتتعلم الفتاة كيف تجعل مطبخ بيتها إذا صارت زوجة وأما محلا آمنا ونافعا، من هنا يبدأ “التحرر” من الهيمنة والتبعية“! وأسأل الدكتور الفايد حفظه الله، إن بلغه مقالي، ما رأيك في كل هذا؟