يصر كثير من الناس ومنهم بعض المنتصبين لدراسة ظواهر المجتمع والمسمون بعلماء الاجتماع أو علماء النفس أو القانونيين أو التربويين أو ما شابه ذلك، على أن يربطوا بين طيش الشباب وبين ما يسمونه مرحلة المراهقة، الشيء الذي جعلها رديفا للانحراف والزيغ وركوب موج الإباحية والاندفاع المفضي إلى كوارث اجتماعية وأخلاقية وهلم جرا.
لكن هل الأمر بهذه الصورة وبهذا الفهم هو كذلك؟
بداية ما المقصود بالمراهقة؟
جاء في المعاجم اللغوية “راهق الغلام” قارب الحلم فهو مراهق والفتاة مراهقة. فالمسألة إذن لا تعدوا أن تكون مرحلة عمرية انتقالية؛ من الطفولة نحو الرشد والنضج الجسماني والوجداني والفكري والعقلي.. بمعنى أنها قنطرة يطول عمرها أو يقصر حسب الظروف والأحوال البيئية والاجتماعية ومن ثم لا ينبغي قصرها على سلوكات غير مقبولة ولا معقولة، وتبريرها بكونها نتيجة مراهقة، فالمرحلة هذه تقتضي أن يُتعامل معها ببالغ الحنكة التربوية والمهارة التوجيهية التي لا تتأتى إلا بالعلم بطبيعة المرحلة وطرق توجيه المراهقين حتى يتخطوها إلى النضج المحمود بدل تركهم في دوامة القيم المجتمعية الطاغية والتي تفسد أكثر مما تصلح.
فإذا تقرر أن المراهقة مرحلة عمرية ليس إلا، فإن ما يطبعها من سلوكات راجعة بالأساس لما يتلقاه المراهق من قيم وأخلاق بالبيت والمدرسة والمجتمع الذي هو في حقيقته مجموعة من البشر يؤثر بعضهم في بعض، فإن ساد بينهم الخير كان المراهق والمراهقة على خير والعكس بالعكس، ولذا فلا حجة لأحد مراهقا كان أو أبا أو أُمّا أو مربيا أو غيرهم بأن يعتذر بالمراهقة لتبرير هذا الطوفان اللأخلاقي المتمثل في المخدرات والزنا بالخصوص، وما يتبعهما من سلوكات يغني وجودها عن ذكرها فإنها لا تخفى على ذي عينين.
ولدحض هذه الفكرة العوجاء والفهم الباطل يكفي التأمل في سيرة سلفنا الصالح وعلى رأسهم خيرة الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ صحابته الكرام الذين ضربوا المثل لكل مراهق طائش كيف تكون المراهقة المتزنة المنضبطة بالأخلاق والقيم الإسلامية الفاضلة. ولا غرابة إن قلنا إن الإسلام إنما انتشر على أيدي المراهقين بالدرجة الأولى فهم الذين صبروا على إسلامهم وتركوا زينة الحياة الدنيا ومتاعها طمعا فيما عند الله، ومن هم في مثل أعمارهم اليوم لا زالوا مشغولين بتقليعات شعر مقززة وسراويل ساقطة ولغة هابطة وحركات نسوانية… تشفق على حالهم وتتأسف لحاضرهم وتخشى على مستقبلهم.
ولئن كان المراهق يمتاز بطاقة الاندفاع فحري بنا أن نوجه ذلك الاندفاع إلى الوجهة السليمة ليكون عندنا نماذج يحفظها التاريخ بشرف كما حفظ لنا من قبل مصعب بن عمير وما أدراك ما مصعب الخير أول سفير في الإسلام، المراهق الذي كان يعيش عيشة الرفاه والرغد هيئتها له أمه، لقد ولد وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال، فأين هو من موضات مراهقي اليوم ومن عطورهم وملابسهم لربما لا تساوي حتى عطره الفواح الذي يترك أثره لمسافات، لكنه طلق كل ذلك لما خالطت بشاشة الإيمان قلبه ووجهت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مراهقته لما فيه خيره وصلاحه.
ألم يكن أسامة بن زيد مراهقا لا يجاوز السادسة عشرة سنة قائدا لجيش فيه كبار الصحابة كأبي بكر وعمر؟
ألم يكن عبد الله بن عمر يوم أحد لا يجاوز الخمسة عشرة سنة وقد استصغر يوم بدر؟
ألم يكن زيد بن ثابت شابا مراهقا صاحب أعظم مهمة في التاريخ وهي جمع القرآن والتي تولاها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعثمان من بعده؟
وهذا أبو جحيفة الذي قال عنه مرتضى الزبيدي في “تاج العروس”: تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم وهو مُرَاهِقٌ ووَلِيَ بَيْتَ المالِ لعلىٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ألم تكن أسماء بنت أبي بكر وأختها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما مراهقتين يوم الهجرة؟
ألم يكن لهما النصيب الأوفر في إنجاح هذا الحدث العظيم المبارك؟
وقبلهم قال الله تعالى: “إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى” وقال سبحانه: “قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ”.
إن التاريخ حافل بالنماذج التي لا تعد ولا تحصى واللبيب تكفيه الإشارة التي تدل عليها حياة تلك الشخصيات التي يُفخر بمراهقتها، لا بآخرين جعلوا من المرحلة عنوان انطلاق نحو الحياة كما يقول المنافحون عنهم من مزوري الحقائق.
فهل مراهقة أولئك تختلف عن مراهقة هؤلاء؟َ!
ما الفرق بين المراهقتين؟
اللهم ما كان من إيجاد البيئة السليمة التي ينبغي أن نربي فيه ذلك الفتى وتلك الفتاة على أخلاق الإسلام وفضائله، إذ ينشأ ناشئ الفتيان على ما كان عوده أبوه، ومن شب على شيء شاب عليه. وما نرى عامة مراهقينا اليوم ينشئون إلا على الاستهتار والميوعة واللامبالاة..، ينشئون بعيدا عن تنمية القدرات الفكرية والمعرفية في مقابل اهتمام بمظهرية زائفة هيئها لهم المجتمع الذي يتحمل فيه الآباء والمربون المسؤولية الكبرى.
إن السير في هذا المنحى من الفهم المنكوس والتبرير الخاطئ لسلوك الشباب اليوم بدعوى المراهقة يجعل المستقبل القادم ليكون حاضرا خاليا ممن يملؤه جدا وكدا إلا من حماه الله من لوثة المراهقة كما يراها القوم.