بعد مرور عشر سنوات على عقد الحماية الفرنسية الغاشمة كلف الماريشال “ليوطي” ضابطَ الشؤون الأهلية في المغرب “ربير منطاني”(1) بدراسة التطور الفكري والأخلاقي عند الشباب المغربي، خصوصا المتخرج من المدارس الإسلامية وذلك في المدة ما بين سنة 1922م إلى 1924م، ومما جاء في تقرير الدراسة: “..أن المؤشرات تتعدد على كون هذا البلد يعرف منذ أربع سنوات -على إثر أحداث الريف- عملا داخليا عميقا، يمكننا من خلال رصده، أن نتبيّن منذ الآن توجهات “المغرب الشاب”، أكيد أن في الوقت الذي تتأكد فيه مظاهر قوتنا المادية، وتتحسن فيه تجهيزاتنا الاقتصادية، وتكتمل سيطرتنا الإدارية (..)، تتشكل نخبة تعي بشكل متزايد، الخطر الذي يؤدي إليه الانغلاق، وتحاول أن تعمل من أجل الدفاع عن المستقبل، وإثبات حيويتها، محاولة إيجاد دعامتها إما في الإيديولوجية الغربية، أو القوى الدينية للمشرق، وذلك لمواجهة الحماية”.
هذا المعطى التاريخي يمكن أن يشكل لنا مدخلا لفهم الواقع المغربي الراهن والذي من أهم سماته هيمنة المبادئ العلمانية على القطاعات الحيوية في البلاد ومحاربة أصحابها لكل مظهر من مظاهر الرجوع إلى العمل بالشريعة الإسلامية، فالتقرير الآنف الذكر يتحدث عن تقسيم النخبة المغربية التي كانت تتوق إلى الانعتاق من نير الاحتلال إلى مجموعتين لكل منهما دعامتها، فإحداهما ذات مرجعية غربية تعتمد إيديولوجية الغرب والثانية تستند إلى القوى الدينية للمشرق، وبالنظر إلى ما اتخذه المحتل من تدابير وما سنه من قوانين وما أحدثه على مستوى التعليم والإعلام والحياة السياسية، يتبين أنه اعتمد بناء على التقرير سياسة رعاية الفئة التي تبنت الإيديولوجية الغربية لأنها أقرب إلى ثقافته وسياسته، ومن ثم يمكن أن يعتمد عليها في توجيه الصراع الحقيقي الدائر بين العلمانية التي تمثل حضارته وإيديولوجيته وبين الإسلام الذي يشكل العقبة الكؤود في التمكين لنفوذه، خصوصا عقيدة الولاء والبراء التي كان يعتمدها العلماء والسلاطين في تحريك رحى الجهاد ضد الجيوش الغازية.
وغير خفي أن هذا الصراع بين العلمانية والإسلام كان محتدما في هذه الآونة على أكثر من واجهة في العالم الإسلامي، بلغ مداه في سنة 1924 حيث تمكنت الدول الغربية العلمانية بمعاونة العميل مصطفى أتاتورك من إلغاء الخلافة الإسلامية وفرض علمانية شاملة ديكتاتورية على المسلمين، كما قامت تلك الدول العلمانية بتقسيم البلدان الإسلامية التي كانت تحت حكم الخلافة الإسلامية بينها وبسطت عليها نفوذها في شكل انتدابات وحمايات عملت خلالها على خلق وتوجيه نخب سلمتها مقاليد الحكم بعد اندحارها، وهذا ما يجيب عن تساؤل ما زالت تطرحه الأجيال بشأن العوامل التي خولت للنخب العلمانية الهيمنة على الحكم بعد الاستقلال رغم أن الإسلام هو الذي كان يحرك المقاومة والجهاد ضد الاحتلال الأجنبي!
وللمزيد من تسليط الضوء على هذه النقطة نتناول بالعرض أنموذجا لفئة مغربية مستغربة تكونت على أيدي المحتل ورجالاته، ولم تستطع أن تفلت من تسخيره وتوظيفه لها في تثبيت ما بدأه منذ احتل ربوع المملكة الشريفة، هذا الأنموذج يشكل بالفعل بداية التنسيق والترتيب لتسليم السلط وتفويتها إلى الفئة العلمانية في المغرب قبيل الاستقلال.
ففي فرنسا وبالضبط في مدينة “إكس ليبان” التي احتضنت المفاوضات بين سلطات الاحتلال ووفود ممثلي الأحزاب الوطنية المغربية بتاريخ 22 غشت 1955م، كان حزب الشورى والاستقلال من أهم الأحزاب المشاركة وكان يرأس وفده وينطق باسمه شخص يدعى عبد القادر بن جلون ودون سابق إنذار ودون استشارة المكتب السياسي للحزب أخذ ابن جلون بعد نهاية الجزء الأول من المفاوضات يصرح للصحافة الدولية أن حزب الشورى والاستقلال حزب لاديني علماني.
ولنستمع إلى الأستاذ إدريس الكتاني الذي كان هو أيضا عضوا في المكتب السياسي للحزب قبل أن يقدم استقالته منه برمته بعد أن غير عقيدته ومنهجه، فلنفسح المجال له بصفته شاهدا على قصة انحراف أحد أكبر الأحزاب المغربية عن سبيل الدفاع عن العقيدة الإسلامية إلى هاوية الدفاع عن العقيدة العلمانية، يقول الأستاذ الكتاني في كتابه “المغرب المسلم ضد اللادينية” الصادر في محرم 1378هـ/1958م :
“ولم يكد ينتهي المؤتمر حتى بدأ السيد عبد القادر بن جلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال بالمؤتمر والناطق باسمه -وكان يتألف من ثلاثة أعضاء آخرين من المكتب السياسي للحزب هم السادة محمد الشرقاوي وعبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة- بدأ يعطي تصريحات وأحاديث لمراسلي الصحف، كان يهتم فيها على الخصوص بالتنصيص على نقطتين رئيسيتين في نظره:
الأولى: أن الشورى والاستقلال حزب لاديني (لائكي) ولذلك فهو ديمقراطي تقدمي عصري.
والثانية: أن اليهود المغاربة يجب أن يشاركوا في إدارة الدولة المغربية وفي الحكومة الوطنية المقبلة التي ستنبثق عن حل المشكلة المغربية.
وكانت في طليعة الصحف التي نشرت هذه الأحاديث “الابسيرفاتور” البريطانية و”فرانس أبسيرفاتور” الفرنسية.
وفي أوائل نونبر 1955م كنا في باريس بمناسبة استقبال جلالة الملك محمد الخامس يوم عودته من مدغشقر، عندما دعونا للغذاء معنا بالفندق الكبير وفد العلماء الشوريين السادة حماد العراقي وشقيقه الشهيد عبد الواحد العراقي وعبد الله الداودي وعبد القادر بن شقرون ومحمد الزيزي وادريس السميرس، وكان معنا على المائدة السيد عبد القادر بن جلون الذي انتهز هذه الفرصة فأخذ يعدد محاسن النظام اللائكي ويقول: (إن أول دستور للدولة المغربية الديمقراطية المستقلة يجب أن ينص على أن الدولة لائكية)، فعارضته بشدة مستدلا بأن الشعب المغربي شعب مسلم فخور بالإسلام، ولذلك سوف يرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة ولن يؤيد الحزب الذي يريد سلوك هذه السياسة أو فرضها بالقوة كما حدث في تركيا وإن من الخير لنا أن نبتعد عنها، وكان يؤيدني في هذه الآراء جميع العلماء المذكورين”.
ولنا أن نتساءل هل كانت تصريحات عبد القادر بن شقرون عن قناعة أم لا؟
وهل كانت مسألة تغيير مبادئ حزب من الأحزاب الكبرى بالسهولة التي تخول لعضو واحد من مكتبه السياسي التصريح علنا وفي ظرف حرج وخطير من تاريخ المغرب بلادينية الحزب؟
ولماذا لم ينجح معارضو العلمانية من سياسيين وعلماء في دحرها؟
لقد سقت قصة لادينية حزب الشورى والاستقلال كمثال حتى نستشف من ورائها هذه الفوضى العارمة التي ابتدأها المحتل العلماني الفرنسي من أول يوم بمحاربة الشريعة الإسلامية وتشرع قوانينه العلمانية بدلها، وإنشاء المؤسسات المدنية والعسكرية من أجل تثبيتها، فلم يستطع لا العلماء ولا المخلصون من الحزبيين ولا رجالات القصر بعد خروجه إنهاءها، وبذلك فُسح لها المجال كي تستمر إلى اليوم، لتستشري في جسم الأمة المغربية، وتمعن في إفساده، الأمر الذي ينبئ بخطر داهم خصوصا مع استقواء العلمانيين بالدول الغربية ومنظماتها.
فغالبية المهرولين للتفاوض مع سلطات الاحتلال من السياسيين ركبوا على ما أظهره المقاومون والمجاهدون من قوة وتفان ليستحوذوا على السلطة ويتناحروا فيما بينهم عليها، وأكثرهم ارتدوا بعد الاستقلال منافحين عن إيديولوجية الغرب العلمانية متوارين وراء مطالب إقرار مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الصراع في المستقبل سيكون بين إسلامية المغرب الثابتة تاريخيا والتي لا يفتأ المغاربة يطالبون بتمكينها من المجالات العامة، وبين علمنته التي تستكثر بمكتسبات زمن الاحتلال الفرنسي الذي ما برحت الحكومات المتعاقبة على دولته ترعى مشروعها في مسخ الهوية المغربية من خلال بعثتها الثقافية، ومنظماتها الفرانكفونية وشراكاتها مع علمانيي المغرب، المشرفين فعليا على استكمال حلقات العلمنة الشاملة للمجتمع المغربي، مستفيدين مما يتحقق على أرض الواقع بفعل الضغوط الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية، خصوصا مع الهيمنة الكبيرة للمستغربين من قيادات الأحزاب العلمانية وخريجي مدارس البعثات الأجنبية على الإدارات والقطاعات العامة، الأمر الذي يفسر هذا الفساد السائد على كل المستويات والذي يحول دون الرجوع إلى هويتنا الإسلامية من جهة، ويمنع من تحقيق أي ازدهار أو تقدم.
فكيف يمكن أن يكون موقف الذين استشهدوا قبل الاستقلال حاملين لواء الجهاد ضد المحتل، فلم تغيرهم أحداث ما بعد “إيكس ليبان” والتناحر على من يفوز بحكم المغرب، من بعض المغاربة الذين ينادون بتحرير الزنا من القيود، وتحرير تجارة المخدرات والخمور، وحرية الإفطار في نهار رمضان وإباحة الإجهاض؟
فمن خلال ما سبق يتبين أن كل الدعوات التي تنافح عن العلمانية ومفاهيمها ومبادئها هي بالضرورة خيانة لله ورسوله والمؤمنين الذين قدموا أرواحهم وأموالهم من أجل جلاء المحتل العلماني عن بلادهم واستئناف سيادة مقومات هويتهم الإسلامية. كما يتبين أن المطالبين بعلمنة المغرب اليوم يعملون من أجل استكمال مشروع المحتل في علمنة المجتمع المغربي المسلم، الأمر الذي يفرض على كل غيور على وطنه وعلى هويته الإسلامية ألا يدخر جهدا في التصدي للمد العلماني، باتخاذ مواقف تعبر عن مفاصلة صريحة لأصحابه ومنابذة لكل مشاريعهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ولد بتاريخ: 19/01/1893م دخل المدرسة الحربية 1911م ساهم في الحرب الأولى كضابط في البحرية الفرنسية وأعد الإجازة في الفلسفة وهو على ظهر طرادة عسكرية ما بين 1914-1917 التحق بالمغرب سنة 1918م بفرقة الطيران البحري بقاعدة المهدية ألحقه ليوطي بإدارة الإقامة العامة مكلفا بالبحث الميداني، للتعرف على الذهنية المغربية، حيث تعلم العربية والبربرية، ساهم في إنشاء مركز الدراسات العليا للإدراة الإسلامية بباريس سنة 1936م لتكوين ضباط الشؤون الأهلية المرشحين للعمل بالمستعمرات الفرنسية، غادر المغرب سنة 1945م،