البناء الحضاري وسؤال الوافد من الآخر هشام الهدار

من المعلوم أن لكل بناء أساسات وأصول يقوم عليها، وإذا وقع خلل بهذه الأساسات والأصول وقع الخلل في البناء، وتظهر عليه التصدعات، وتتفكك أوصاله، وتضعف قواه، هذا المشهد المروع يدفع أصحابه للمسارعة إلى إنقاذه وترميم ما بدأ يتلاشى منه وإصلاح ما فسد فيه، فيمكن أن نقول إن البناء الحضاري يحتاج إلى مقومات بناء، وهي الأصول التي يقوم عليها، وإلى مقومات بقاء وهي التي تحفظه من التلاشي والاندثار وتقوم اعوجاجه، وترشد مسيره.
وهذه المقومات بنوعيها تنقسم إلى ذاتية؛ مستمدة من روح الأمة والمجتمع الذي يريد أن يبني حضارته، ولها جذور أصيلة فيه، لا يقلد فيها أحد. وأخرى غير ذاتية؛ مستمدة من الخارج يستصحبها من أجل البناء وتعضيد الأصول، فهي ليست من رحمه ولا منه، وإنما هي من إنتاج الآخر، أي من إنتاج سياق مجتمعي آخر مغاير لسياقه.
وفي هذه الكلمات أريد أن أجيب على بعض الأسئلة التي ترد على فكري، والمتعلقة بالمقومات غير الذاتية، من قبيل: كيف نتعامل معها؟ هل نقبلها كما هي أم نرفضها؟ أم نستفيد منها ولكن بشروط؟
عندما يتحدث أي شخص؛ مهما كانت مرجعيته التي يستقي منها أفكاره في العالم الإسلامي؛ عما يفد علينا من الآخر (الغرب)، فإن الأصوات والآراء تتضارب وتتدافع حوله بين مؤيد وآخر معارض، وآخر متحير لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
لكن الذي يؤسفني هي تلك الصرخات الطائشة التي تدعوا إلى تلقف كل ما يفد علينا من الغرب من غير نظر ولا تأمل ولا تمحيص، بدعوى اللحاق بركب التحضر والتقدم والتحرر والعولمة… وغيرها من المصطلحات البراقة التي تجذب آذان من يتلقى هذه المصطلحات ومفاهيمها المضخمة المفخخة لأول مرة، لكن من سبر أغوارها وعرف حقائقها، وعرى على عيوبها، لا تطربه بل تدق ناقوس الخطر عنده، لأن من أراد البناء يعتمد بالأساس على مقوماته الذاتية المنسجمة مع خصوصيات واقعه، وأما ما عند الآخر فإنه يأخذه ويخضعه للضوابط الذاتية، ولا يقبل به حتى يخضع إلى عملية تصفية وتنقيح وتنقية، كي لا يتناقض مع خصوصيات الواقع والمجتمع الوافد عليه.
وهذا ما فعله المسلمون منذ عهد الرسالة وإلى ما قبيل دخول الاحتلال البلاد الإسلامية، والتاريخ أمامنا باسط صفحاته لمن أراد أن يتأكد، فقد استفاد المسلمون من اليونان والرومان واليهود والنصارى وغيرهم، ولكن كل ذلك كان خاضعا للضوابط الإسلامية، بحيث لا ينافي الأصول الدينية ولا الثوابت الأخلاقية ولا يعود على القيم الحميدة بالنقض والإبطال، فسادت الأمة الإسلامية العالم بأمن وأمان، وأنتجت حضارة كانت ولا تزال (بثرواتها) أساسا لما وصل إليه التقدم البشري في هذا العصر، فأنجبت لنا ابن خلدون والجويني والغزالي وابن رشد الجد وابن رشد الحفيد وابن تيمية وابن سينا والرازي وجابر ابن حيان، وغيرهم ممن كان لهم الأثر الكبير والبصمة الواضحة في وضع أسس العلوم المادية التجريبية والإنسانية، وإذا ما أعملنا عقولنا وتدبرنا هذا الشرط في قبول ما عند الآخر من أجل البناء الحضاري، سنجده شرطا شرعيا معقولا، إذ أن السياق الذي نشأت فيه تلك المقومات له خصوصياته وظروفه التي ساعدت هذه المقومات على التأثير الإيجابي، أما إذا أردنا أن نأخذ نفس المقومات ونعتمدها في البناء الحضاري للأمة الإسلامية، فهذا الأمر يفرض علينا اختيار أحد هاتين الطريقتين:
الأولى: كي تأثر هذه المقومات وتساعد على البناء الحضاري للأمة الإسلامية، يجب علينا أن نوفر نفس الظروف التي ولدت فيها وترعرعت، وهذا الأمر لا يمكن أن يحدث في البلاد الإسلامية، إذ أن بلادنا ومجتمعنا له مقومات وخصوصيات تأبى القبول بكل ما عند الآخر، أي تأبى أن تكون نسخة مطابقة للغرب العلماني اللائكي، فلنا دين توحيد له مقومات أخلاقية وسلوكية، فردية وجماعية -لا تتعارض مع التقدم العلمي-، ولنا تقاليد منسجمة مع ديننا، فلا يمكن أن ننسلخ من ديننا وأن نتبع ملة غيرنا، قال الله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} البقرة:119.
فلا يمكن أن نخالف أصول ديننا ولا أن ننسلخ من أخلاقنا، فإذا ما فعلنا ذلك أذلنا الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} آل عمران:139 فبالإيمان نعز ونعلوا، وكيف لنا أن نقوي إيماننا؟ أبمخالفة ديننا؟
الثاني: أن نضبط هذه المقومات الدخيلة بالشريعة الإسلامية ونخضعها للمبادئ والقيم الاجتماعية المنسجمة مع روح الشريعة الإسلامية، فنجعلها معضددة للمقومات الذاتية لا مبطلة ومعارضة لها، فنأخذ ما يوافق سياقنا ومجتمعنا لا ما يعارضه، ونقوم ما يقبل التقويم ونطور ما يقبل التطوير حتى يصير منسجما مع مبادئنا.
وهذا الخيار الثاني هو المطلوب شرعا وعقلا وواقعا -كما تقدم-، إذ ما نعيشه اليوم من تخلف وتقهقر هو نتيجة لتملص الكثيرين من مبادئ الدين وثوابت الهوية الإسلامية، فضاعت الأخلاق وانحرفت السلوكات، فانشغلنا بتصحيحها، وتقويم ما كان المفروض فيه أن يكون مستقيما دافعا نحو التقدم.
وأخيرا أقول، تذكروا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} محمد:8، وقوله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} آل عمران:160.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *