على المسلم أن يعظم الله حق تعظيمه ويقدره حق قدره, ويعظم ما يستلزم ذلك من شعائر الله وحدوده وحرماته فإن ذلك من أجل العبادات القلبية التي يتعين تحقيقها والقيام بها وبالذات في الزمان الذي ظهر فيه ما يخالف تعظيم الله: من الاستخفاف والاستهزاء بشعائره سبحانه, والتسفيل والازدراء لدين الله تعالى وأهله.
قال تعالى: “مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً”.
قال ابن عباس ومجاهد: “لا ترجون لله عظمة”, وقال سعيد بن جبير: “ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته”.
قال ابن القيم رحمه الله: “روح العبادة هو الإجلال والمحبة, فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت” المدارج.
وقال تعالى: “ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”.
قال السعدي رحمه الله في تفسير الآية: “أي: ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره، والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ” ومنها الهدايا والقربان للبيت، وتقدم أن معنى تعظيمها، إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومنها الهدايا، فتعظيمها، باستحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله” تيسير كريم الرحمن.
وقال تعالى: “وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ”.
قال ابن القيم رحمه: “قال جماعة من المفسرين: حرمات الله ههنا: مغاضبه مما نهى عنه, وتعظيمها ترك ملابستها.
قال الليث: حرمات الله: ما لا يحل انتهاكها، وقال قوم: الحرمات: هي الأمر والنهي. وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه. وقال قوم: الحرمات ههنا المناسم ومشاعر الحج زمان ومكان.
والصواب: أن الحرمات تعم هذا كله، وهي جمعة حرمة، وهي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأمكان. فتعظيمها: توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة” المدارج.
وليعلم أن الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال له عز وجل.
قال ابن تيمية رحمه الله وهو يبين أهمية تعظيم الله سبحانه: “فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله تعالى، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الإستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل, كان وجود ذلك الإعتقاد كعدمه, وكان لك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح” الصارم المسلول.
وتعظيم الله سبحانه وتعالى: أولا: إنما هو بوصفه بما يليق به من الأوصاف والنعوت التي وصف بها نفسه والإيمان بها وإثباتها له دون تشبيهها بخلقه وتعطيلها عما تضمنته من معاني عظيمة.
فمن شبه ومثل أو عطل وأول فما عظم الله حق تعظيمه.
ومن تعظيمه جل وعلا الإكثار من ذكره في كل وقت وحين, والبدء باسمه في جميع الأمور، وحمده والثناء عليه بما هو أهل له, وتهليله وتكبيره.
ومن تعظيم الله سبحانه أن يطاع رسوله صلى الله عليه وسلم فمن أطاع الرسول فقد أطاع المرسل, ومن عصاه فقد عصا الله, قال تعالى: “مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ”.
ومن تعظيم الله أن يوقر رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: “لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ”.
ومن تعظيمه كذلك أن يصدق كتابه بأنه كلامه، وأن يحكم في الأرض لأنه شرعه الذي ارتضاه للناس أجمعين، فمن لم يفعل فما عظم الله حق تعظيمه.
ومن تعظيمه تعالى امتثال أوماره وإجتنابه نواهيه ومحارمه, ومن أعظم ذلك القيام على التوحيد وحب أهله واجتناب الشرك وأصحابه.
ومما يجوب تعظيم الله وإجلاله أن نتعرف على نعم الله تعالى, ونتذكر آلاءه.
ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يربي ابنته على وجوب تعظيم الله تعالى ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجرة على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى اله عليه وسلم حتى بدت نواجده تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ”.
ولما قال الأعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإنا نستشفع بالله عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله, سبحان الله! فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه, ثم قال: ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك, إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه”.
وقد اقتفى الصحابة وأهل العلم بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسلك، فهذا عبد الله بن عباس يقول لبعض أصحاب المراء والجدال: “أما علمتم أن لله عبادا أصمَّتهم خشية الله من غير عِيّ ولا بكم، وإنهم لهم العلماء العصماء النبلاء الطلقاء, غير أنهم إذا تذكروا عظمت الله تعالى انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية فأين أنتم منهم؟”.
وقال الخطابي رحمه الله: “وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعة”.
وقال عون بن عبد الله: “ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء, حتى يقول أخزى الله الكلب, وفعل الله به كذا”.
ومن أروع الأمثلة التي دونها التاريخ عن سلفنا الصالح في هذا الباب موقف الإمام مالك إزاء ذاك الرجل الذي سأله عن قول الله تعالى: “الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى” كيف استوى؟ حيث صار حال الإمام كما قال الراوي: “فما رأيته غضب من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرَّحضَاء (العَرَق), وأطرق القوم فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه, ثم سرِّي عن مالك فقال: الكيف غير معلوم والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, وإني لأخاف أن تكون ضالا ثم أمر به فأخرج”.
وقال الشافعي رحمه الله: “يكره للرجل أن يقول: قال رسول الله, ولكن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ومرَّ الأمام أحمد رحمه الله مرة مع ابنه عبد الله على قاص يقص حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الهم عز وجل إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال, قال عبد الله: فارتعد أبي واصفر لونه، ولزم يدي وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرص، فلما حاذاه قال: يا هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام أغير على ربه عز وجل منك، قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتعظيم الله -إذن- وتعظيم شعائره وحرماته من أجل منازل السائرين ومن أعظم عبادات الصالحين, فكيف لا تعظمه تعالى قلوبهم والسماوات تتفطر منه كما قال تعالى: “تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً”.
قال الضحاك بن مزاحم رحمه الله في تفسير الآية: “يتشقـَّقن من عظمة الله عز وجل”.