“الرضى جنة الدنيا وستراح العابيدن”
الرضا عن الله تعالى من أعلى مقامات اليقين، وقد قال الله تعالى: “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان” فمن أحسن الرضى عن الله سبحانه جازاه اله بالرضا عنه فقابل الرضا بالرضا، وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء، وهو قوله تعالى: “رضي الله عنهم ورضوا عنه”، وقد رفع الله الرضا على جنات عدن، وهي من أعلى الجنان كما فضل الذكر على الصلاة فقال تعالى: “ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر”.
قال ابن القيم رحمه: “قد أجمع العلماء على أنه (أي الرضا) مستحب مؤكد استحبابه واختلفوا في وجوبه على قولين.
وسمعت شيخ الإسلام رحمه الله يحكيهما على قولين لأصحاب أحمد وكان يذهب إلى القول باستحبابه.
قال: ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم” المدارج.
ومنزلة الرضا أعلى من منزلة الصبر فإن الصبر حبس النفس وكفها على ما تكره مع وجود منازعة فيها أما الرضا فحيقته كما قال السعدي في شرحه على منظومة السير إلى الله: “تلقي أحكام الله الأمرية الدينية وأحكامه الكونيى القدرية بانشراح صدر وسرور نفس لا على وجه التكره والتلمظ”.
وقيل الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان.
وقيل: سكون القلب تحت مجاري الأحكام.
وجماع ذلك: “الاختيار لحكم الله وأمره وتلقيه بالسكون والطمأنينة”.
اجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويسف بن أسباط، فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم فأما اليوم فوددت أني مت فقال له يوسف ولم؟ قال: لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري: ولم تكره الموت؟ قال: لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا، فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئا أحب ذلك إلي أحبه إلى الله، قال: فقبل الثوري ما بين عينه وقال: روحانية ورب الكعبة، انظر المدارج، والوعظ المطلوب للقاسمي.
وقال هذا الأخير مبينا معنى قول سفيان روحانية: “يعني: مقام الروحانيين ومهم المقربون أهل الروح والريحان وأولوا المحبة والضوان.
وكما مر معنا فمقام الرضا متفق على استحبابه مختلف في وجوبه بخلاف مقام الصبر فهو واجب اتفاقا مع التنبيه على أن الرضا المتكلم عنه غير الرضا باله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فهذا الأخير واجب اتفاقا.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه: “أما بعد فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضا وإلا فاصبر”.
وقيل ليحيى بن معاذ رحمه الله: “متى يبلع العبد إلى مقام الرضا؟ فقال إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول: إن أعطيتني قبلت وإن منعتني رضيت وإن تركتني عبدت وإن دعوتني أجبت”.
واعلم أن حقيقة الرضا عند نزول حكم الله وأمره أما قبله فهو عزم على الرضا لا غير.
سئل أحد السلف عن قوله صلى اله عليه وسلم: “أسألك الرضا بعد القضاء” فقال: “لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا والرضا بعد القضاء هو الرضا”.
وثمرة الرضا الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى.
قال القاسمي رحمه الله: “فمن الرضا سرور القلب بالمقدور في جموع الأمور وطيب النفس وسكونها في حال، وطمأنينة القلب عند كل مفزع من أمور الدنيا وإلا يشكوا ربه إلى عبد ولا يتبرم بفعله وقضائه” الوعظ المطلوب.
وقال السعدي رحمه الله في منظومة السير إلى الله وهو يصف السائرين إله تعالى:
نزلوا منزلة الرضا فهم بها قد أصبحوا في جنة وأمان.
وقال رحمه الله في شرح ذلك: “وبالرضا تضمحل تلك المنازعة ويرضى عن الله رضا مطمئن منشرح الصدر بل ربما تلذذ بالبلاء كتلذذ غيره بالرخاء وإذا نزل العبد بهذه المنزلة طابت حايته وقرت عينه ولهذا سمي الرضا: جنة الدنيا ومستراح العابيدن.
ومن رضي عن الله رضي الله عنه”.
وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يحكي لنا صورة حية للرضا بأمر الله وحكمه تجلت في حالة شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: “وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان في من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من طيب الناس عيشا وأشرحه صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنة قبل لقائه فتح لهم أبوابها في دار العلم فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها..” الوابل الصيب.
وليس من شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولهذا أشكل على بعض الناس الرضا بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا: ممتنع على الطبيعة وإنما هو الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهة؟ وهما ضدان.
والصواب كما قال ابن القيم في المدارج: “أنه لا تناقض بينهما وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضا المريض بشرب الدواء الكريه ورضا الصائم اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ، ورضا المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها”.
ومما يذكر في هذا المقام أنه لما مات ابن الفضيل رحمه الله رؤية في الجنازة ضاحكا فقيل له أتضحك وقد مات ابنك؟ فقال: إن الله قضى بقضاء فأحببت أن أرضا بقضائه.
قال ابن القيم معلقا كما في المدارج: “فأنكرت طائفة هذه المقالة على الفضيل وقالوا رسول الله صلى اله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه وأخبر أن القلب يحزن والعين تدمعه وهو في أعلى مقامات الرضا فكيف يعد هذا من مناقب الفضي؟.
والتحقيق: أن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتسع لتكميل جميع المراتب من الرضا الله، والبكاء رحمة للصبي فكان له مقام الرضا ومقام الرحمة ورقة القلب والفضيل لم يتسع قلبه لمقام الرضا ومقام الرحمة فلم يجتمع له الأمران..”.
قال الربيع بن أنس علامة: “حب الله كثرة ذكره فإنك لا تحب شيئا إلا أكثرت من ذكره وعلامة الدين الإخلاص لله في السر والعلانية وعلامة الشكر الرضا بقدر الله والتسليم لقضائه”.