إن هذا التراث الضخم المنسي أو المتخلى عنه هو أحق ما يُلتفت إليه، وأعظم ما يُرجى خيره، وأخطر مسؤولية في أعناق العلماء والمثقفين العقلاء وطلبة العلم المبتدئين، وهو ما جعل الشيخ الفهامة بكرا أبا زيد يعقد مقارنة عجيبة نفيسة بين تراث الأمة وبين الضروريات الخمس قائلا: “إن رعاية حرمة التراث تداخل كل واحدة من الضروريات الخمس، التي بُنيت عليها الملة، ودعت إلى حفظها.
فأولى الضروريات: المحافظة على الدين، وهذا التراث من لباب الديانة.
والثانية: المحافظة على النفس، وهذا التراث نتاج عقول المسلمين ونسل قلوبهم.
والثالثة: المحافظة على العقل، وهذا التراث غذاء عقولها وعقولنا.
والرابعة: المحافظة على العِرض، وهذا التراث عرض الأمة وشرفها.
والخامسة: المحافظة على المال، وهذا التراث كنز لها.
فحقيق أن يكون أهل الإسلام لهذا التراث كالجسد الواحد، إذا نيل من كتاب واحد، هرعوا لكف العدوان وصد المعتدين”.
“ومن هذا، كان حقا على أمة الإسلام، وحماة الشريعة، ومن أعطاه الله بسطة يد على المسلمين أن يُعطوا الكتاب حقه ومستحقه من الاهتمام والتعظيم، وأن يسعوا سعيا حثيثا في مناصرة أهل العلم، وتهيئة سبل التأليف والتصنيف، وأن يقوموا مثنى وفرادى على حراسة الكتاب وصيانته من كل شائبة وغائلة، وأن يسعوا في تعزيزه ونشره بكل ما يملكون ويستطيعون” (صيانة الكتاب:32).
إنه لا يشك متأمل في أن تألق الغرب وازدهاره في شتى الميادين هو خلاصة تركيزهم على الكتب، قراءة وفهما وتأليفا وتعويدا على حبها، وتشجيعا على طبعها، ونهما في اقتنائها، وترسيخا لها في المؤسسات التربوية، بدءا من رؤساء الدول، مرورا بوزرائها ونوابها وموظفيها، وانتهاء بآخر فرد فيهم، الكل يقرأ ويحب المطالعة ويُسهم في خدمة بلاده بما أمكنه.
ومثل تلك المجتمعات الواعية بخطورة الكتاب، أفرزت أساتذة متقاعدين نشأوا على حب المعرفة والثقافة، يتجولون في القرى والبوادي النائية، بمكتباتهم الخاصة المتنقلة؛ لإفادة التلاميذ بما استطاعوا جمعه من معارف متنوعة، وفي ذلك ما فيه من عبرٍ لكل معتبر.
فليس غريبا عنا -نحن أمة إقرأ- الهيامُ بالكتب وما يتعلق بها، وتاريخنا المجيد خير شاهد على ذلك؛ فإن الناظر في سير أمراء المغرب وغيرهم رحمهم الله، يصاب بالذهول من شدة حبهم للعلم والعلماء، وحرصهم البالغ على القراءة والإقراء، بل افتخارهم بذلك وجعله من لوازم الإمارة والملك؛ وفي ذلك يقول محمد المنصور في كتابه “المغرب قبل الاستعمار” (215 فما بعدها بتصرف):
“وفي طموحه لتعزيز الدولة كان سيدي محمد بن عبد الله (1757/1790م) معجبا بأحمد المنصور السعدي، ومقتفيا أثره في العديد من مظاهر الحكم، وتبعا لمثال هذا السلطان، جعل سيدي محمد من قراءة الحديث وشرحه داخل مجالسه عُرفا منتظما، جمع حوله ثلة من العلماء، وفي إطار هذا الاهتمام، جلب سيدي محمد من المشرق عددا من مجاميع الحديث، وخاصة مسانيد الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل…”.
وهو لم يذكر معها موطأ الإمام مالك رحمه الله وشروحه؛ لأنه من المسلمات التي لا يناقشها المغاربة من زمان بعيد، من غير تعصب مقيت له ونبذ لغيره من مصنفات علماء الإسلام.
إنه قد يفنى الورق، ولا ينقضي الحديث عن همة الأمراء والوزراء والولاة والأدباء والعلماء، وسائر أفراد المجتمع العالِم في تاريخنا الإسلامي العظيم، وجمع ذلك من بطون الكتب التراثية أو استقصاؤه، من المحال؛ إذ إن كل ما ذُكر من عزائم أسلافنا وعلو كعبهم في العلم والثقافة، كان على سبيل المثال لا الحصر.
وفي كتاب الشيخ عبد الحي الكتاني، المسمى بـ”تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب” الخبر اليقين؛ فقد حكى عن السيوطي في المزهر أنه قال: قد ذهبت جل كتب اللغة في الفتن الكائنة من التتار وغيرهم، بحيث إن الكتب الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا يجيء حملَ جمل واحد” (ص:34).
ونقل عن الفرات في تاريخه أن الصليبيين لما احتلوا طرابلس الشام في عام 502هـ، أحرقوا مكتبة دار العلوم بها، وكانت تحوي ثلاثة ملايين كتاب، كلها في علم الدين والقرآن والحديث والأدب، من ذلك خمسون ألف مصحف، وعشرون ألف تفسير لكتاب الله، وكانت هذه الخزانة من عجائب الدنيا.
“وكان مبشر بن فاتك محبا لتحصيل العلوم، وكان له خزائن كتب، فكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها، وليس له أدب إلا المطالعة والكتابة، ويرى أن ذلك أهم ما عنده، وكانت له زوجة كبيرة القدر أيضا من أرباب الدولة، فلما توفي نهضت هي وجوارٍ معها إلى خزائن كتبه، وفي قلبها من الكتب، وأنه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيرة وسط الدار هي وجواريها، ثم شيلت الكتب بعد ذلك من الماء وقد غرق أكثرها”.
وفي الكتاب من القصص ما يطول ذكره والعجب منه.
لقد ذكرنا ذلك لنؤكد أن غزارة تراثنا الإسلامي المتاحة لنا الآن، لا تمثل حقيقة ما خطت أنامل علمائنا السالفين، ومع ذلك يحتار لها اللبيب، ويخجل من عظمتها الأريب، وغايتنا شحذ الهمم للغوص في لججها واستخراج كنوزها، لتعود لنا حياتنا الحقة، وشرفنا المسلوب، وسؤددنا الملبس عليه.
وجدير بالذكر أن نقر بأن ضعف عزائمنا ماضيا وحاضرا، وقلة حياطتنا لتراثنا، وتقديمنا لعلوم غيرنا على علومنا، واتباعنا لزخارف القول وسفاسف الأمور، كان من أسباب ضياع الكتب المؤلفة، وذلك ما أكده شيخ المحققين عبد السلام هارون، لما قال: “والآن نسأل: أين ذهبت هذه الكتب جميعا (يتحدث هنا عن كتب الجاحظ الضائعة)، وفي أي مطرح طوح بها الزمان؟؟ لقد ضرب الدهر على كثيرها، فعادت في مثل صنعة الساحر، لمعت حينا ثم انكفأت. أفنقول: إن أعاصير الخلاف المذهبي عصفت بها، فلمَ ضاعت آثار غيره من أهل السنة؟ الحق أن الخمود الذهني وهبوط الهمم، كان لهما معظم الأثر في ضياع هذه النفائس وفقدها…” (الحيوان: 1/6).
ولو قارنا همم المسلمين في القرون الثلاثة الأولى المفضلة بمن جاء بعدهم في القراءة والتأليف والتعليم، لتبين البون الشاسع، والفرق الواسع، وإن كان الناس عموما محبين للعلم والعلماء بعد تلك القرون إلى أن أقض المحتلُّ الغاصب مضاجعنا بقضائه على الخلافة العثمانية، آخر قلاع العز والتفوق العلمي والحضاري.
في “تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم” لابن جماعة (32): قيل للشافعي رحمه الله: كيف شهوتك للأدب؟ قال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعا تتنعم به؛ قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدَها وليس لها غيره.
إنه غير خاف أن النبوغ كان سمة المسلمين قديما؛ إذ أخلصوا عقولهم وقلوبهم للعلم، وعلموا أنه المنقذ من الضلال، فساروا على دربه، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، فوفقهم الله لترك تراث يعجز اللسان عن وصفه، وتتكسر الأقلام دون ذكر مزاياه واتساع أطرافه.
يتبع بحول الله وقوته..