التكريم بتسخير الكون له والإمامة فيه
ومفهوم ذلك أن هذا الإنسان -على الجملة- هو سيد المخلوقات والدال على الله عز وجل في كونه، وما استحق ذلك إلا بعد أن تحمل الأمانة. فلما قال الله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، دل ذلك على أن هذا المخلوق مهيأ لاستقبال الخطاب القرآني وتبليغه، بما جعل الله فيه من خصائص، “فأن يكون الإنسان موضع خطاب رب العالمين هو -لعمري- أمر عظيم جدا، وتكريم كبير جدا لهذا المخلوق الضعيف، لا يملك العبد المحب إزاءه إلا أن يخر ساجدا لله رب العالمين على ما أنعم وأعطى من تأهيل وتشريف” .
وهذا القرآن الكريم هو الذي أهله لإمامة الكون بحيث لا يتحقق معنى الإمامة هنا إلا إذا كان المأموم يتبع الإمام ويطيعه، وذلك الذي حصل مع الإنسان، إذ بقدرته -التي جعلها الله فيه- على استقبال القرآن والعلم به وتعليمه، نال “الأفضلية ليس على الملائكة وحدهم، بل أيضا على السماوات والأرض والجبال في حمل الأمانة الكبرى” .
فكان -وباستحقاق- الإمام في ذلك المسجد الكبير الذي هو الكون، ومن خلفه الكائنات مؤتمة به، عابدة الله تعالى طوعا أو كرها منتظمة بعده ليدلها على الله رب العالمين، ومع مأمومية هذا الكون فقد هُيئ ليعيش فيه الإنسان “ويموت، ثم يموت الكون كُله بموته، ثم يعاد خلقه بإعادة خلقه! أي إن إعادة خلق الكون إنما هو من أجل إعادة خلق الإنسان مرة أخرى” .
وكأن هذا الكون إنما خُلق لخدمة الإنسان وأنه تبع له، ومن هنا نال ما نال من تكريم وتقدير.
وبالرغم من صغره وضعفه فالدنيا كلها بضخامتها وشساعتها وجدت خادمة لوجوده وتنتهي بانتهائه، فـ”لا يخطرن على بال أحد ويقول: ما أهمية هذا الإنسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة وتفتح دنيا أخرى لمحاسبته على أعماله؟
لأن هذا الإنسان هو سيد الموجودات رغم أنه صغير جدا؛ لما يملك من فطرة جامعة شاملة، فهو قائد الموجودات والداعي إلى سلطان أُلوهية الله والممثل للعبودية الكلية الشاملة ومُظهرها” .
فتجد أن نظام الشمس والقمر إنما جُعل علامات لأوقات عبادته، وأن الدواب والمركوبات إنما خلقت لحمله وتسريعه، وأن المأكولات والمشروبات إنما خلقت لتقويته وإشباعه؛ أي أن السماوات والأرض خُلقتا على صورة مهيأة لخدمة و”استضافة هذا الساكن الفريد، حمال الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) ” .
والإنسان بهذه الصفة (المتبوعية) لم يقتصر ولم يقتنع بصفة التابعية في المخلوقات الأخرى، بل إن آماله تجاوزت الزمان والمكان والحياة؛ ساعية في تحقيق رغبة البقاء الكامنة في فطرته، فآماله تمتد إلى الأبد وأفكاره تحيط بالكون، ورغباته تنتشر في ثنايا أنواع السعادة الأبدية.
هذا الإنسان إنما خُلق للأبد وخُلق الأبد له، وسيرحل إليه حتما، وما الدنيا إلا مستضافا مؤقتا له وصالة انتظار الآخرة .
ومعنى ذلك أنه مغروز فيه قصد المتبوعية وحب البقاء والإمامة والاستزادة من طول العمر، وهو معنى قرره الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال وطول العمر) .
———–
1- النحل:44
2- مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، ص:129
3- رسائل النور (الكلمات)، ص:27
4- مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، ص:107
5- رسائل النور (الكلمات)، ص:63-64
6- الأحزاب: 72
7- مفاتح النور، ص:105
8- رسائل النور (الكلمات)، ص:95 (بتصرف)
9- متفق عليه