عندما تصنف السلطات المغربية كل أطياف الجماعات والتيارات الإسلامية بين التطرّف والإرهاب، فإنها تعطي للمغاربة صورة عن تصورها ورؤيتها للدين والتدين الذي تريده، ومن ثَمّ ترتفع بشدة إلى السطح بعض أسئلة الشأن الديني من قبيل:
هل الإسلام في المغرب لا يزال هو نفسه الإسلام الذي عرفه المغاربة طيلة 14 قرنا الماضية؟؟
أم يُراد صناعة إسلام بديل؟؟
وهل هذا الإسلام البديل هو ما أصبح يطلق عليه الإسلام الأمريكي أو الإسلام العلماني؟؟
أيْ الإسلام الذي تم إخضاعه لمقتضيات العلمانية ولِلَوازم الحضارة الغربية اللادينية من خلال تحريف دقيق لشريعته ومفهومه، بحيث يصبح إسلاما مهجَّنا، إسلام له خصائص نصرانية فرنسا وإسبانيا وسويسرا وبريطانيا، إسلام قابل لكل التأويلات، ومن ثمة لا يبقى له ولا لشريعته صلة بالشأن العام ولا بتدبيره، ولا دخل له لا في الاقتصاد ولا في السياسة ولا في التشريع، إسلام فرداني شخصي، تُقصى منظومة أحكامه وشريعته من كافة مناحي الحياة العامة.
وبرجوعنا إلى المعطيات على أرض الواقع المغربي يتبين أن المسألة الدينية بعد 11 من شتنبر 2001، قد أخذت منحَى التأطير والضبط المحكوم بفرض النظرة السلطوية الصارمة على كل المؤسسات الرسمية التي تنتج الخطاب الإسلامي، وقد تجلت هذه الصرامة من خلال عزل كل خطيب أو واعظ أو مسؤول لا ينخرط في تنزيل النظرة الجديدة لتأطير “الحقل” الديني.
لم تعد الأهلية والكفاءة العلمية ولا العدالة والنزاهة هي الشروط المؤهلة لهذه المناصب بل انضاف إليها شرطٌ صار أساسيا: وهو قبول الجهات الأمنية للشخص المترشح أو المرشح لشغل أي منصب ديني بغض النظر عن أهميته.
وبهذا صارت وزارة الأوقاف من الناحية العملية تشتغل تحت وصاية وزارة الداخلية.
وما دامت وزارة الداخلية ترى كل الجماعات الإسلامية وأتباعها بنظارتَي التطرّف والإرهاب، فكان طبيعيا أن يتم إقصاؤهم من مهمة الوعظ والإرشاد والخطابة، إقصاء لا مسوغ له سوى تهمة الانتماء أو التعاطف مع الجماعات الإسلامية، ولن تشفع لهم كفاءاتهم وشواهدهم العلمية.
ثم لم تكتف السلطات بمنع هؤلاء المتدينين من مناصب الوعظ والإرشاد فقط، بل وسعت دائرة التهميش والإقصاء لتشمل مؤسسات وزارة التربية والتعليم، حيث تم تنفيذ عمليات إقالة وإعفاء بالجملة في حق مديرين ومؤطرين بالمؤسسات التعليمية بتهمة الانتماء إلى جماعة العدل والإحسان.
ثم قبل هذا وذاك يجرى العمل منذ سنوات عديدة بسياسة التضييق والإقصاء في حق أتباع الجماعات الإسلامية؛ في ممارسة العمل الجمعوي، حيث تمتنع السلطات عن إعطاء وصولات الإيداع بخصوص الجمعيات التي تتضمن لائحة أعضاء مكاتبها أشخاصا تثبت البحوث الأمنية أنهم ينتمون إلى إحدى الجماعات الإسلامية التي تم ذكرها في الوثيقة المسربة والتي تداولتها الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع المنصرم.
ولنا أن نتأمل كيف لم تستطع جمعية بحجم جمعية “التوحيد والإصلاح” الحصول على وصل الإيداع النهائي إلا بعد أن أصبح أبرز زعمائها رئيسا للحكومة في ظروف ما يصطلح على تسميته بالربيع العربي، أي أنها كانت محظورة طيلة عقود من الزمن وتعتبرها السلطات متطرفةً وغير مرغوب فيها.
ثم أضف إلى ذلك الإقصاء والتهميش في المجال السياسي، حيث يمنع منعا كليا تأسيس حزب على أساس ديني ولو كان الإسلام نفسه، بل حتى لو صرح المنتمون إلى التيارات الإسلامية بنفيهم “تهمة” الأساس الديني للحزب الذي يعتزمون تأسيسه، يرفض ملفهم مادامت البحوث الأمنية تثبت انتماءهم لتيار إسلامي ما، ويشهد لهذا ملف “الحركة من أجل الأمة” الذي لا زال مجمدا منذ سنين عديدة.
وبالرجوع إلى دراسة كل الحالات السابقة نخلص إلى أن القاسم المشترك الأساس بينها هو: محاولة منع السلطات كل التيارات والجماعات الإسلامية من أي تأطير للمواطنين أو أي مشاركة في أي مؤسسة رسمية تنتج خطابا دينيا يؤطر المواطنين ويوجههم وينظمهم؛ وبهذا تكون السلطات تُمارس أبشع أنواع الإقصاء والتهميش والحرب الممنهجة، الأمر الذي يدفع الناس قسرا إلى العمل السري، ويحدث الاحتقان الذي يهدد السلم الاجتماعي والاندماج الطبيعي للمواطنين الذي يفترض أن يسري بشكل سوي وتلقائي.
فكل مظاهر التهميش والإقصاء تدلنا كذلك دلالة قاطعة أن المتدينين في المغرب تصنفهم السلطات إلى صنفين: إما متطرف وإما إرهابي.
والمشكل بل المعضل هو أن السلطات لا تكلف نفسها تعريف التطرّف والإرهاب، بل تلصق التهم تأخذ القرارات بشكل صارم، ولا معقب لقراراتها؛ فلا القضاء يغني شيئا فينفع، ولا القانون يقدم حلا فيشفع، ولا السياسة تعطي قوة فتدفع، ويبقى كل من قرر الانتماء إلى الحركات والتيارات الإسلامية مهددا بوسم #التطرف_والإرهاب.
هذا مع العلم أن الحركات الإسلامية في العالم بأسره اليوم -وليس في المغرب فقط- أصبحت رقما صعبا في المعادلة الأمنية والسياسية، وقد أثبتت السنوات الأخيرة أنها من أهم مكونات المجتمعات الإسلامية رغم التضييق والتهميش والعنف الذي يمارس ضدها.
لكن الوضع في المغرب يبقى له خصوصيته وحساسيته، بحيث نلحظ جليا أن هذه الحركات تقع من الناحية التاريخية والواقعية بين خَطَّيْ ما نسميه “الدولة الممتدة” والدولة العميقة، فالدولة الممتدة في التاريخ عبر قرون تأخذ شرعيتها ولا زالت من عقد البيعة الذي يعتبر السند الشرعي لإمارة المؤمنين، والذي من أهم شروطه حماية الملة والدين، وقدرة هذه المؤسسة على فرض هذه الحماية دون الإخلال بما جرى به العمل خلال قرون من التطبيقات المضمنة في الوثائق الفقهية والنصوص الشرعية التي كانت هي الفيصل عند النزاع والخلاف بين الحكام والعلماء.
ولهذا لا زالت الدولة تجد حرجا بالغا في تطبيق الاتفاقيات الدولية المعارضة بشكل سافر لمقتضيات الشريعة وأحكام المذهب المالكي؛ خصوص ما تعلق بالزواج والإرث، لكنها تأخذ وقتها الكامل في تغيير قناعات المجتمع التي يحرسها الضمير الجمعي الممثل في علماء المغرب الرسميين وغير الرسميين وكذا الدعاة والوعاظ.
تغيير القناعات الجمعية هذا يقوده اليوم الوزير المكلف بتدبير الشأن الديني حيث يحاول صناعة نخبة من العلماء تسوِّغ له من خلال اجتهادات غير منضبطة بالفقه المالكي وأصوله، لينزل مشروعه الذي صرح غير ما مرة أنه يتساوق فيه الديني مع السياسي، أي يتساوق فيه الإسلام مع العلمانية، لذا نراه كلما أخل خطيب أو واعظ بهذا التساوق وانتصر لموقف الدين على حساب الرؤى العلمانية، إلا وكان جزاؤه العزل والإقصاء، ولأن أتباع الجماعات الإسلامية لن يخدموا هذا المشروع التساوقي فيكون من نصيبهم التهميش والإقصاء بشكل آلي.
لكن، إذا كانت إمارة المؤمنين هي أهم مقومات الدولة الممتدة، والتي تعطيها الشرعية في التدخل في الشأن الديني فإن الجماعات الإسلامية وأتباعها يُعتبرون -ولو نظريا- رعايا لإمارة المؤمنين، ولا يخرجون عن هذا الوصف إلا عندما تتدخل الدولة العميقة لتصنفهم خوارج عليها، وذلك من خلال فرض نموذج خاص، لفهم الدين ونصوص الشريعة وتنزيلهما.
في حين يبقى النزاع حول هذا الفهم وهذا التنزيل عالقا من الناحية العملية، لا تتدخل إمارة المؤمنين بالفصل بشأنه، لا بشكل مباشر ولا عبر علماء المجلس العلمي الأعلى، الأمر الذي يُبقي الالتباس قائما ويُبقي الجماعات الإسلامية ضحية لاتهام السلطات بالخروج عن إمارة المؤمنين بتصنيفها متطرفة أو إرهابية.
إن فرض هذا الوضع الملتبس على الجماعات الإسلامية وأتباعها بين الدولة الممتدة التي ينتمون إليها والدولة العميقة التي تنظر إليهم بنظرة السخط والتهميش والإقصاء، له عدة إفرازات على مستوى السلم الاجتماعي والائتلاف المجتمعي، بحيث يؤدي إلى تقسيم المغاربة إلى صنفين، ويجعل كل من يظهر التدين ويرى الرجوع إلى تعاليم الشريعة الإسلامية عَدُوّا للدولة، الأمر الذي لا بد أن تكون له عواقب وخيمة على المدى المتوسط للمجتمع المغربي ودولته.
لأجل ذلك نرى أنه يجب على الجميع الانخراط في نقاش جدي حول موقف الدولة من الجماعات الإسلامية، يتحلى فيه الجميع، بأخلاق النزاهة والعدل في التعاطي مع موضوع بالتأكيد ليس خاصا بالجماعات الإسلامية ما دامت هذه الجماعات تؤطر جزء كبيرا من المواطنين يفوق بكثير ما تؤطره الأحزاب السياسية مجتمعة.
كما على الدولة أن تعيد النظر في قراءتها الجديدة للدين والمجتمع، وفي سياستها في تدبير الشأن الديني، نقول هذا مع استحضارنا أن المغرب لا يعيش معزولا عن العالم، وأن أمر الجماعات الإسلامية يمثل ملفا من أهم الملفات التي تعتني بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي اعتناء خاصا، نظرا لما يشكله صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم -في تقديرها- من تهديد لمصالحها الاستراتيجية ونموذجها الحضاري، في بلدان العالم الإسلامي.
ولهذا نراها تقود سلسلة من الانقلابات في الدول الإسلامية التي صعد الإسلاميون فيها إلى سدة الحكم ولن يكون آخرها محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا.
لكن رغم كل هذا يجب على الدولة الممتدة والدولة العميقة أن تجدا طريقا ثالثا ومعقولا يسمح بتدبير ملف الجماعات الإسلامية تدبيرا يجنب المغاربة مثل ما تعيشه بعض الدول التي أساءت إدارة هذا الملف الخطير، وبطبيعة الحال لن يكون طريق الإقصاء والتهميش والاضطهاد إلا طريقا يوصل بشكل حتمي واضطراري إلى نفق العنف المظلم، وقد دل على ذلك الواقع والتاريخ.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب