استفسارات معقولة المبنى عن تصورات مخبولة المعنى عبد المغيث موحد

كثيراً ما أجدني مسترسلا مع أحلام الكثير من هؤلاء الصغراء الذين نراهم اليوم والأمس القريب قبله مستكبرون في مناكب الأرض بغير حق، مستشرفا مع هذا الاسترسال مآلات هذه الأحلام وتلك الأوهام، ومع هذا الاسترسال كانت تهجم على الخاطر وتغزو الوجدان كمكمات استفهامية لا ندري من أين نأخذ بزمام الإجابة عنها؛ كما لا ندري أي مصب وحوجلة نوجه إليهما سيرها.
أي أحلام تلك التي بدأت وهي في مهد استهلالها خاطئة كاذبة؛ أحاطت ناصيتها بهالة من الأصباغ والأستار السرابية؛ ثم ما فتئت أن تحولت بفعل دوران عجلة الزمن وسير الأيام إلى كوارث ومهابط حادة تهدد وحدة الأمة؛ وتعقد من استقامة سيرها.
وتلك ولا شك حقيقة الباطل وحقيقة أهله، فكم من وعود زائفة ملأت دنيا الناس، وكم من عربون نصر وتقدم قد خصم من جملة الرهون التي قدمناها بسداجة وغباء إلى الذين ولدوا وهم يجيدون صنعة الكذب؛ ويتقنون فن افتعال اللغط الذي يحصل معه الانبهار الآخذ بالنواصي والأقدام؟
كم عدد الوعود التي كتبت في أوراق غير مسطورة قد تم إعادة إنتاجها وإخراجها من حيز المسطور إلى التجلي المنظور؟
وكم هي مشاريع المهد التي مارس عليها أصحابها جريمة الوأد الذي لم يبق شيئا ولم يذر فيئا؟
وكم من برامج ثلاثية وخماسية وبعيدة المدى ماتت في المهد ودفنت في لحد سوف ولعل ولا بأس؟
ثم أين نحن من تلك الأحلام التي كانت تصور لنا الغد في ظل تفعيل العلمانية وإقصاء الدين واجتثاثه من النفوس المنيبة غذاً مشرقا ومستقبلا ملامسا للآفاق المتقدمة التي سبقنا إليها الفكر المادي اللاديني الملحد؟!
لقد أفقنا بعد هذا الحلم الجميل وأضغاثه على واقع موبوء الأركان متصدع الجدران واقع ناضح بكل سلبي ومشين ومقذور واقع يسعى اليوم رواد تمثيليته إلى إغراقنا في بحر المشاعية ومستنقع الرذيلة، فهم اليوم لم يعد لهم همّ سوى خدمتنا في مجال أو مشروع الإشباع الأنعامي الذي يقوم في محيطه المرء باكرا وليس في برنامج أجندته اليومية سوى تشنيف أذاننا بالأغاني الماجنة؛ وإطلاق بصرنا في تجليات السينما الهابطة؛ وإشباع غريزتنا الجنسية من لحم بناتنا اللواتي بات يمارس عليهن وأد حداثي أشد وأقهر من وأد الجاهلية الأولى.
وبين الفينة والأخرى لا ينسى رواد العلمانية صناع الحداثة بائعوا بضاعة الاستغراب حقهم في إطلالة بهية تتكرر ولا تتقرر يتحدثون من خلالها وعبرها عن المكتسبات الحداثية في مجالات الحرية التي يؤثث سقف كينونتها الحق في كل شيء بدءاً باللواطة والشذوذ؛ ووصولا إلى الإلحاد والمروق والإجهاز على كل خلق رفيع وحل نجيع.
فهل يا ترى بمثل هكذا مكتسبات نستطيع أن نحقق الصعود إلى سطح العرجون القديم؛ ذلك الصعود الذي طالما قارن به كل معاند تيمن دخول المسجد وذكر التخلي وبعضا من المسالك الفقهية الفرعية؟
أبمثل هذا الإقعاد الأخلاقي والإخلاد المتسفل في النقيصة يمكن أن نحقق بعضا من ملامح المدنية التي قوامها العلم والمعرفة والإبداع في مجالات الطب والهندسة والمكننة؟
أبمثل هذه الجاهلية يمكن أن نلج سم خياط الرقي والتقدم الذي يقيم ظاهر الحياة الدنيا ولا يتنازل عن الالتزام الأخلاقي المطلوب؟!
أبمثل سلوكيات “مالي” وعربدات “ديالي” وقائمة الأدران طويلة عريضة يمكن أن نحقق للفرد داخل الجماعة العيشة الرضية والحياة الطيبة الهنيّة؟!
أبمثل هذه الخرجات المارقة التي وصل مداها إلى إرسال الأم إلى فراش الحرام فراش السفاح ثم الدفاع عن هذا الإرسال المشين بجراءة وحقارة كل ذلك باسم الحرية والتحرر المدني المطلوب نكون خير أمة أخرجت للناس؟
أبمثل الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ورمي الدين الذي هو عصمة الأمر بالأفيونية يتحقق المنشود الحضاري؟!
ثم أي حضارة يمكن للمرء أن يعيشها خارج دائرة الإسلام وبعيدا عن ظلال شريعته الغراء؟!
هل هي حضارة الغرب التي أذن فيها المجمع الكنسي بجواز بل بتنفيذ عقد قران بين ذكر وذكر وبين أنثى وأنثى ؟!
أم هي حضارة المجتمع المدني الغربي الذي وصلت صفاقته حد ونصاب عرض المرأة عارية متفسخة وكأنها لحم محنوذ وراء زجاج (الفتارين) يقف الرجل المتحضر ليتفرس في العرض المتباين الأشكال الضارب في عمق الإفلاس الأخلاقي والبوار الأدبي ليختار على حسب المقاس والسعر من تلكم البضاعة المزجاة؟!
أم هي حضارة الذين اخترعوا الطائرة النفاثة لتحمل أثقالنا وأجسادنا إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس ثم حولوها باسم الحضارة والتمدن والحماية والإنقاذ إلى قاذفات موت وراجمات هلاك ؟!
أم هي حضارة الذين يتعبدون بولغ الخمر ومشاعية الخنا ومعرة الشذوذ واللواطية وارتفاع أرقام جريمة القتل والسرقة والاغتصاب؟!
لست أدري أي تبرير يشرعن به أهل العلمنة والاستغراب قداسة عشقهم وحرمة انتسابهم إلى مثل هكذا حضارة؟
لست أدري حينما يتجرأ أحدهم بنبز عهود النبوة والصحبة والتابعين بالظلامية والرجعية والوراء؛ أي نور بديل أشبع بصره من مثل هكذا حضارة؟
لست أدري بأي منطق وعلى أي أساس تطلب منا العلمانية اليوم التخلي والانفكاك عن صلتنا بالله وهي صلة لا إقعاد فيها ولا إخلاد؟
لست أدري أي كسب نالنا وتفيأنا ظله وتذوقنا ثمره من تبني نظريات الغرب العلماني ومن اتخاذ شريعة التنزيل والإرسال ظهريا ونسيا منسيا؟
لست أدري ما الذي يحمل العلماني في غير مداهنة إلى مسالمة الشيوعية والبوذية والماجوسية والهندوسية بل يقبل في كفالة الوثنيات العائدة إلى الواجهة بينما نجده على العهد والوعد لا يرقب في الإسلام وأهل التوحيد إلاًّ ولا ذمة؟
وبعد هذه الاستفهامات لا نملك إلا أن نحمد الله الذي بفضله انقلب الجهل إلى دراية؛ والهيام إلى معرفة؛ وذلك بعدما صار الإجمال مفصلا، ورأينا أحلام العلمانية الوردية في مجال التنمية والعدل والمكننة والسير على مدرج التقدم وقد انقلبت إلى واقع من الارتجال الحائف الذي صار همه النهل والإشباع من كل رذيلة؛ وحشر الأنف وبطش اليد وزحف الرجل صوب إقامة صرح كل مقذور.
ونحن لا نملك إلا أن نقول امتثالا أننا بعد هذه المرحلة المتطورة لن نحسبه شرا لنا بل هو خير وأي خير أتقى وأبقى من أن نرى هذه السخائم المارقة تهدم بيتها الضرار بأيديها بعدما طال عليها الأمد وسارت بها ركبان التاريخ بالقصد إلى حيث سيحصل الذهاب جفاء ولا بد؛ وتلك سنة الله التي لا تبديل لها مصداقا لقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}؛ ثم مصداقا لما نراه اليوم رأي العين ونلمسه لمس اليد من تهاو وتهافت لنظريات الفكر المادي في مسقط رأسها، تهافت جعل الذين استنصروا علمانيتنا بالأمس يستصرخوننا اليوم هربا من الجوع والعري والخوف.
فهل من عبرة يا أولى النهى وهل من ذكرى يا أولي الأبصار!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *