الكلمة المشتركة أو الدالة على الحقيقة والمجاز تحمل على المعنيين أو المعاني في آنٍ واحد:
وردت في القرآن الكريم ألفاظ مشتركة لكنها حُملت على المعاني الدالةِ عليها دون تعارض بينها، وقد تحمل الكلمة على معنيين في آن واحد، تكون حقيقة في إحدهما، مجازاً في الآخر.
وقد حاز هذا المبحث اهتمام كثير من العلماء قديما وحديثا، فاشتغلوا به جمعا وتصنيفا في ألفاظه، وبحثا وتنقيحا في مسائله.
وممن قال بأن اللفظ يستعمل في معنيين فأكثر في آن واحد: الإمام الشافعي، ونص عليه في الأم، والإمام مالك بن أنس، والقاضي أبو بكر الباقلاني، والإمام الغزالي من الشافعية، والقاضي عبد الجبار من المعتزلة، وهي مسألة معروفة في كتب أصول الفقه.
إلا أن قصدهم بهذا المبحث والذي يسمونه بـ “الوجوه والنظائر” أن تكون الكلمة واحدة ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد، وحركة واحدة، وأريد بكل مكان معنى غير الآخر، وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الأخرى. وقد ذكر هذا التعريف ابن الجوزي صراحة في مقدمة كتابه “نزهة الأعين النواظر، في علم الوجوه والنظائر( 1)”.
فهؤلاء يقصدون بالاشتراك كما رأيت الكلمة الواحدة في سياقات مختلفة تحمل معاني مختلفة. بمعنى أن الكلمة يختلف معناها باختلاف السياق الواردة فيه.
أما أنا فأقصد هنا كون الكلمة الواحدة في سياق واحد تحمل معنيين أو أكثر وكلها مرادة من غير تعارض.
وهذا من الفنون البلاغية العالية القائمة على الجمع (الايجاز) والتي فيها عطاء فكري ثري، وإمتاع للأذكياء، وفيه استغناء عن ذكر اللفظ مرادا به بعض ما له من معان بقرينة، ثم ذكره مرادا به بعضاً آخر بقرينة أخرى، فذكره مرة واحدة مرادا بها جملة المعاني التي يدل عليها أوسع لدلالته، وأعم لفائدته، وأثرى لمعانيه، وهذه هي طبيعة النصوص الرفيعة، التي تشتمل على دلالات كلية دستورية، كنصوص القرآن المجيد، وكثير من أقوال الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم(2 ).
ومن تدبر سورا كثيرة في القرآن المجيد يرى كلمات كثيرة تحمل أكثر من معنى، وأنه لا داعي لصرف النص عن أحدها وقصره على واحد منها دون غيره، لما في ذلك من تحكم يأباه العقل، وتأباه اللغة، وتأباه الأساليب البيانية الرفيعة، فكان من الأفضل حمل تلك الكلمات على كل المعاني التي تحملها، تمشيا مع عطاء القرآن الكريم الثري، الذي لا تنضب معانيه، ولا تفنى عجائبه. وهذا كله من جوامع كلم القرآن ومن دلائل الإعجاز البلاغي فيه( 3).
قال الأستاذ الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله:
ومن أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها، أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية، لإرادة ما يصلح منها، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما، وبذلك تكثر معاني الكلام مع الإيجاز، وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر، ودالة على أنه منزل من لدن العليم بكل شيء، والقدير عليه(4 ).
وقد جعل السيوطي استعمال الكلام في أكثر من معنى في وقت واحد، من “النوع التاسع والثلاثين” في معرفة الوجوه والنظائر، قال: وقد صنف فيه قديماً مقاتل بن سليمان، ومن المتأخرين بن الجوزي، وابن الدمغاني، وابن عبد الصمد المصري، وابن فارس وآخرون.
ومعنى “الوجوه” عنده: هو اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان..قال: وقد أفردت في هذا الفن كتابا سميته “معترك الأقران في مشترك القرآن”…ثم قال: وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن، حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجها وأكثر وأقل(5 ).
إلا أنه يقصد به ما ذُكر قبلُ من معنى المشترك عندهم.
قال الدكتور محمد موسى الشريف:
والاشتراك في ألفاظ القرآن العظيم -وإن انفرد القرآن بكيفية وكمية الألفاظ المشتركةـ لا يصح أن يعد وجها مستقلا بالإعجاز لكنه مندرج تحت الإعجاز بالفصاحة والبلاغة، فلعل السيوطي أراد إبراز هذا الباب وإظهاره، فعده وجها مستقلا بالإعجاز، لكن الصحيح ما قدمته من اندراجه تحت وجه أعم منه، والله أعلم(6 ).
قلت: هذا اصطلاح منه رحمه الله، ولامشاحة في الاصطلاح، ثم إن السيوطي لم ينف كونه من الإعجاز بالفصاحة والبلاغة، وإنما هو تنصيص على بعض أفراد العام، نظراً لأهميته وإغفال المفسرين اعتباره. والله أعلم.
—–
([1])ـ محمد نور الدين المنجد “الاشتراك اللفظي في القرآن الكريم”ص: 93 ط دار الفكر ط1/1998
([2])ـ عبد الرحمن حبنكة الميداني “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل” ص 567 ط دار القلم ط 3 /2004
(3)ـ نفسه ص 570 بتصرف
(4)ـ التحرير والتنوير ج 1 ص 123.
(5)ـ جلال الدين السيوطي “الإتقان في علوم القرآن” ط دار الكتب العلمية ط 2003 ج 1 ص 283.
(6)ـ محمد موسى الشريف “إعجاز القرآن الكريم بين السيوطي والعلماء” ص 403 ط دار الأندلس الخضراء ط2 /2002.