العلماء هم الأمناء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الأطباء، فالأطباء يقيمون دنيا الناس، والعلماء يقيمون آخرتهم ودنياهم، كيف لا وهم ورثة الأنبياء، وقد يظن أن مغربنا الحبيب ليس فيه من العلماء والسلاطين ما يفخر بهم المغاربة خصوصا والمسلمون عموما، لكن من خلال هذه السلسلة المباركة “درر من أقوال العلماء المغاربة”سيظهر جليا أن أهل المغرب قد ضربوا في الباب بالسهم الأوفر إلى جانب إخوانهم في المشرق؛ متعاونين متناصحين ليبنوا معا صرح أمة إسلامية يشهد التاريخ أنها خير أمة أخرجت للناس.
وأول من نفتتح به هذه السلسلة من المصلحين السلطان العلوي مولاي الحسن الأول رحمه الله، سجل التاريخ اعتصامه بالكتاب والسنة، وعنايته بالعلماء وعلى رأسهم العلامة السلفي عبد الله السنوسي، من معين كلامه رحمه الله كتاب بعث به إلى قضاة مراكش وعلمائها، جاء فيه:
“وبعد فقد بلغنا من أخبار متعاضدة، وطرق عن التحامل متباعدة، أن خطة القضاء والإفتاء صارت ملعبا ومتجرا، لا يعرف أصحابها فيها سآمة ولا ضجرا، وأن الرشا فيها تقبض سرا وعلانية، والأحكام تصدر بنية وبلا نية، قد عدل فيها عن منهاج العدل، من غير اكتراث بتأنيب ولا عذل، والحقوق نزلت بمعرض الضياع، والمراتب المعظمة بهذه البقاع، صارت كسراب بقاع، وأن بعض القضاة حمله ما حمله إلى التطاول للدعاوى البعيدة منه واستجلاب القضايا المصروفة عنه.. مع العلم بأن من صرفت عنه قضية؛ فقد صرفت عنه بلية، لو لم يكن الغرض الدنيوي الذي أغراه، والشره الذي استحوذ عليه وأغواه، حتى ظهرت على القضاة أمارات الغنى والرفاهية، ..هذا مع أنا بالغنا في اختياركم لتطهير الصحيفة، وإبعاد ساحة الشريعة عن الأمور الشنيعة المخيفة، واختبرنا وخبرنا، وانتقينا وأبقينا، ولكن صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: “الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة”.
إني لأفتح عيني حين أفتحها *** على كثير ولكن لا أرى أحدا
فإذا كان أهل العلم تصدر منهم هذه الفعال، فأي شيء تركوه للجهال، وإذا كان منصب الشريعة تحاز به البراطيل –أي الدراهم- وتبدو من جانبه الرفيع هذه الأباطيل، فأي ملام يتوجه على عامة الناس، على اختلاف الأنواع والأجناس.
من غص داوى بشرب الماء غصته *** فكيف يصنع من قد غص بالماء
كيف ولم تزل تتلى عليكم آيات كتاب الله، وأحاديث رسول الله، أأنتم عنها ساهون؟! أم أنتم عن التذكرة لاهون؟! أفلا تتدبرون قول الله: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون” وقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) -أي الذي يمشي بينهما- هذا واسألوا عن سيرة من تقدم من قضاة هذه الحضرة المراكشية كالفقيه السيد محمد عاشور، والفقيه السيد الطالب بن حمدون، فقد كانوا من الدين والخير بمكانة، وأعطوا الخطة حظها من العفاف والصيانة، وخرجوا منها بيض الصحائف حمر الوجوه، فاعرفوا فضلهم، واقتفوا سبيلهم، وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم، واعلموا أننا بحول الله لا نزال نبحث عن أحوالكم بالتنقيب والتنقير، ونعاملكم بالتحذير قبل التعزير، وباللين ثم الجد، وبالصفح ثم الحد، لأن الله كلفنا بكم، وسائلنا عنكم، وأمور الشريعة عندنا أهم من كل مهم، وآكد من كل أكيد، وما على هذا من مزيد، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”. (انظر النبوغ المغربي لعبد الله كنون (458).)