اتفق العلماء المسلمون على استنكار التدخل الفرنسي العسكري في شمال مالي، وهو استنكار معتبر بكل المقاييس..
ومعلوم أن فرنسا لا يمكن أن تُقبِل على تحرك من هذا النوع؛ إلا بدافع تحقيق مصالحها التي لا تكترث لما قد يؤديه غيرها ثمنا لتحقق تلك المصالح؛ ولو كان الثمن باهظا جدا.
بهذا الدافع تدخلت أمريكا في أفغانستان، وغطت ذلك الدافع بذريعة: تجفيف منابع الإرهاب وإيقاف المد (الأصولي) الذي تمثله طالبان والقاعدة، فكانت النتيجة: نزيفا مهولا في الدماء ومزيدا من تردي الأوضاع المعيشية وتزايدا في أسباب الخراب والفوضى وتفرق كلمة المسلمين، وانتقلت آثار العدوان إلى باكستان التي أضحت تعاني من واقع هو أشبه ما يكون بالحرب الأهلية التي تفرق بين أهل الوطن الواحد وتجعل الدماء والأعراض بينهم مستباحة.
والشيء نفسه يقال عن التدخل في الصومال والشيشان..
أما العراق فنتجت عن التدخل العسكري فيه؛ مذبحة مهولة ومحرقة للإنسان والحضارة، وبلغت الجناية فيه مبلغا يستغرب معه استمرار حديث الدول الإمبريالية عن قيم السلم والأمن وحقوق الإنسان..
جناية تفرض على هيئة الأمم ومجلس الأمن أن يقدما استقالتهما من منصب الوصاية على الأمن والسلم العالميين.
وهذا التساهل الغريب في التعامل مع جناية بهذا الحجم يعطينا مؤشرا واضحا على مدى تجذر الظلم والعدوان في البنية الفكرية والقواعد السياسية لما يسمى: النظام العالمي الجديد، وأنها قواعد لا يمكن أن تؤدي إلى سيادة العدل والمساواة والمحافظة على حقوق الإنسان وكرامته.
لقد أدت هيمنة هذا الواقع الذي يطفح ظلما وجورا؛ إلى ظهور نوع من التطبيع مع هذه التدخلات الإرهابية المدمرة، وهو ما يفسر موقف أحد القساوسة الذي لم يجد أية غضاضة في الافتخار بمشاركته في الحرب على العراق؛ في ندوة عقدت لبحث موضوع تعزيز السلم والأمن في شمال أفريقيا!
إن تاريخ التدخل الغربي عسكريا في الدول الإسلامية لم يكن في يوم من الأيام في صالح هذه الدول، ولم يجلب لها أي خير، مما يجعل محاولة إضفاء نوع من المشروعية عليه والحديث عنه بمنطق المصلحة المشتركة؛ أمرا بعيدا كل البعد عن الصواب..
وأبعد منه عن الصواب؛ أن نجعله في كفة موازية لكفة ما يسمى: “الخطر الإرهابي” لبعض الجماعات المسلحة؛ إلى الحد الذي يلجئنا إلى نصب الموازنة بين المصالح والمفاسد للوصول إلى التكييف الفقهي لحكم تدخل دولة أجنبية عسكريا في بلاد إسلامية..
والأكثر بعدا عن الصواب؛ أن ندعي أننا لا يمكن أن نتكهن بما سوف يترتب على هذا التدخل الأجنبي، أو أننا لا ندري ما هي المقاصد الحقيقية لتدخل دولة مثل فرنسا عسكريا في المشهد المالي؟
إن عدم مشروعية القبول بشن دولة غير مسلمة الحرب على بلد مسلم؛ أمر محسوم شرعا، ولا أعلم خلافا في حرمته عند كافة فقهاء المسلمين، من أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم؛ وقد نصوا على تحريم أن يبيع المسلمون للكافرين ما يستعينون به على المسلمين سلاحاً أو عتاداً أو مراكب كالشاحنات وغيرها من وسائل النقل..”إلـخ.
كما أن التسوية بين خطر التدخل الأجنبي وخطر الجماعات المسلحة أمر غريب، والحق أنه لا ينبغي أن نختلف في أن الأول أشد خطرا على مصالح المسلمين من الثاني، وأن التفاوت كبير بين حجم الخطرين؛ لا من حيث طبيعة التهديد الذي يحمله كل من مصدري الخطر، ولا من حيث القدرات لكل منهما، ولا من حيث أهداف كل منهما..
وإذا كانت خطورة بعض الجماعات الإسلامية مردها إلى كونها مؤطرة بعقيدة التكفير؛ فإن المشروع الغربي مؤطر بالعقيدة العلمانية التي تفتك بالدين كما يفتك السرطان بالجسم، وإذا كنا نرفض أن تساس الدول الإسلامية بتفسير متشدد للشريعة؛ فإننا نرفض بشكل أكبر أن تساس بعلمانية تلغي الشريعة بالكلية، ثم إن معرفتنا بمقاصد كلا التوجهين يجعلنا نوقن بأن مقاصد التدخل العسكري الغربي تكلفنا أكثر مما تكلفنا مقاصد من يوصفون بالإرهابيين، ناهيك عن الفرق بينهما في القدرة على الوصول إلى تلك المقاصد والمصالح..
فهذه الجماعات المسلحة التي نقر بأنها مخطئة ومجانبة للحكم الشرعي حين تتبنى الفكر التكفيري المنحرف -مع تحفظنا في الحكم عليها كلها بأنها تحمل ذلك الفكر-؛ هي مع ذلك لا تصل إلى هذه الدرجة من الخطورة التي يراد إيصالها إليها لتسويغ كثير من التجاوزات العسكرية والسياسية التي تستهدف تصفية حسابات، وتوظيفها لرسم خريطة سياسية تضمن استمرار هيمنة (الإيديولوجية) العلمانية، وترسيخ عولمة ماسخة تمثل الوجه الجديد للاستعمار والإمبريالية.
إن الواجب الشرعي والمنطق السليم يفرضان علينا أن لا نشارك –من حيث لا نشعر- في الترويج لأكذوبة مفادها أن الغرب مظلوم ومهدد بالإرهاب وأنه ينبغي التعاون معه لمواجهة هذا التهديد..
ولا ينبغي للسياسيين (الإسلاميين)؛ أن يقعوا في هذا الفخ فيسوغوا الظلم والعدوان بمنطق الموازنة بين المصالح والمفاسد والنظرة المقاصدية..
وفي الوقت الذي نقر فيه بأن الكلام في الموضوع بمنطق “التكفير” والتخوين مسلك خاطئ في ضوء التعقيدات التي تكتنفه وتحيطه بركام من الشبهات الدافعة إلى عدد من التأويلات ؛ فإننا نرى أيضا بأنه لا يقل عنه خطأ الكلام فيه بمنطق “التسويغ” الذي قد يؤدي إلى التطبيع مع سلوك خطير من حجم: التدخل العسكري لدولة أجنبية في بلد مسلم..
ونحن نقر بأن “استحضار التشابك بين المصالح والمفاسد في مثل هذه القضايا والنوازل، واستحضار المصالح في قوتها ومراتبها ومداها الزمني”؛ أمر ضروري؛ لكن مجاله هو الاجتهادات التي لا تعارض الأحكام القطعية؛ ومنها: تحريم قبول اعتداء الكافر على المسلم فضلا عن إعانته على ذلك.
وليس في الفقه المقاصدي؛ ما يجوز إسلام المسلم للقتل والعدوان، والبلد المسلم للخراب والدمار، لاسيما أن (كوانتانامو) و(أبوغريب) وغيرها من سجون (مكافحة الإرهاب) المزعومة؛ قد أكدت لنا أن حكومات غربية بالغت كثيرا في الانتقام ممن تسميهم إرهابيين؛ فعذبت ونكلت وأمعنت في التعذيب وسجنت بغير محاكمة وعاقبت على الرأي وظلمت أبرياء..
فهل يصح شرعا ومنطقا أن نسوغ تدخلها العسكري -المتفلت أخلاقيا- في بلد مسلم مغلوب على أمره؟؟
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يسلمه” [متفق عليه].
وفي رواية خرَّجها الإمام أحمد: “المسلم أخو المسلم؛ لا يظلِمُه ولا يخذُله”.
قال ابن الجوزي في كتابه [كشف المشكل]: “قوله: “لا يسلمه”؛ أي لا يتركه مع ما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه”اهـ.
وكون المسلم المعتدى عليه ممن ابتلي بحمل فكر متطرف لا يخرجه عن هذا الحكم، بل لا يخرج منه الخوارج أنفسهم، وقد حكى ابن بطال إجماع الفقهاء على أن الخوارج من جملة المؤمنين.
فهؤلاء ينبغي السعي لإصلاحهم وتصحيح أخطائهم؛ وهذا داخل في كوننا لا نسلمهم؛ قال البكري في دليل الفالحين: “(ولا يسلمه) أي: إلى عدوه؛ ومنه نفسه التي هي أمارة بالسوء، والشيطان كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر: 6)؛ فيحول بينه وبين دواعي النفس من الشهوات والدعة المقتضية للنزول عن مقام الأخيار والحلول في جملة الأشرار، وبينه وبين الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء، وبينه وبين العدو الباغي عليه بالظلم والاعتداء”اهـ
قلت: هذا لو كان ضحايا الحرب منحصرين في أمثال هؤلاء؛ فكيف والحال أن من ضحاياها أبرياء لا يد لهم فيما يجري؟
فالتدخل العسكري الأجنبي مرفوض على أية حال، ولا مجال للادعاء بأن (الديبلوماسية) استنفدت كل الحلول؛ لأننا نتساءل على سبيل المثال:
ما هي الجهود المبذولة من طرف الدول المعنية لإيفاد لجان من العلماء لمحاورة الجماعات المسلحة وإعدادها لتفاوض سياسي يقوم على الموازنة الشرعية في تقدير المصالح والمفاسد؟
لا سيما أن المغرب والجزائر وموريتانيا تتوفر على ثلة من العلماء الذين يستطيعون بلا شك الإقناع الشرعي وبيان التكييف الفقهي للوضع في مالي والمواقف الشرعية السليمة إزاءه..
ألم يكن هذا حلا ممكنا للأزمة بدل المسارعة إلى إعلان الحرب التي تهلك الحرث والنسل، وتنهتك الحرمات والحقوق وتسلط الظالمين والبغاة على الأرواح والأعراض؟؟
ألا يمكن أن يكون الحامل على استبعاد هذا الحل؛ هو الخوف من أن يؤدي إلى إجهاض المشروع العلماني ويفتح الطريق أمام واقع سياسي يتبنى الشريعة الإسلامية مرجعا؟؟
ألا يدل هذا على أن الدافع وراء تدخل فرنسا هو اتخاذ موقف استباقي للحيلولة دون توفير أرضية خصبة لاستنبات ذلك الواقع الذي يهدد (إيديولوجيتها) الضامنة لمصالحها الاستعمارية؟؟
وأن الدوافع لا تنحصر في “مواجهة الإرهاب كما هي تصريحات المسؤولين الفرنسيين الرسميين، أو مجرد حماية المصالح الحيوية الفرنسية في النيجر (اليورانيوم)، أو أن الأمر يرتبط بمجرد الرفع من شعبية الرئيس فرانسوا هولاند؛ كما تساءل أحد الفضلاء الذين نكن لهم الاحترام والتقدير ..