التعامل مع الله وابتغاء رضاه

 

الربيع بن خثيم إمام جليل من أئمة التابعين، زاهد عابد، آية في الاستقامة، وعلو كعب في العلم والعمل.. كان من تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه، وقد قال له ابن مسعود يوما -بعد أن رأى سمته وهديه، وخبر حاله وأمره-: “لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك”.

قال الربيع ذات يوم لأهله: اصنعوا لي خبيصا -نوع من الحلوى يصنع من التمر والسميد-، وكان لا يكاد يشتهي عليهم شيئا من الطعام.. فسارعوا فصنعوه له، فأرسل إلى جار له مصاب بضرب من الجنون فجعل يلقمه ويطعمه بيده -ولعاب الرجل يسيل- فلما فرغ الرجل من الطعام وخرج قال أهل الربيع للربيع: “تكلفنا وصنعنا، ثم أطعمت هذا المجنون!! والله ما يدري ما يأكل”.

قال الربيع: لكن الله يدري.

“لكن الله يدري” هذه الكلمة هي التي سبق بها من سبق، وفاز بسببها من فاز.

التعامل مع الله.. لله.. وابتغاء رضاه، لا التعامل مع الناس لأي غرض أو عرض أو محمدة أو ممدحة.

هذا ما يمكن أن نسميه التجرد عن الأغراض والأعراض، وإخلاء النفس والقصد عن كل ما سوى الله، وأن تنشد الحق ولو كان عند غيرك، وأن تبتغي الصلاح ولو عند مخالفك، وأن تنزل على الحق متى بانت علاماته ولو من خصمك، وألا يمازج نفسك هوى أو دنيا أو جاه أو سلطان؛ ولذلك قال بعضهم: هو الإخلاص، وبعضهم يقول: بل هو أعلى درجات الإخلاص..

والتجرد والإخلاص من أعز الأمور وأصعبها على النفوس. سئل سهل التستري: أي شيء أشد على النفس؟ قال الإخلاص؛ فإنه ليس لها فيه نصيب.

ومن وفقه الله لبلوغ هذه المنزلة -أي التجرد والإخلاص لوجه الله تعالى- أتى بالعجائب.

فهذا مسلمة بن عبد الملك بن مروان، كان قائدا من أعظم قادة بني أمية، وفاتحا من أكابر فاتحي الإسلام (ت: 120هـ).. حاصر مسلمة حصنا من حصون الكفار، فاستعصى عليه وتمنع، ووجدوا في سور الحصن نقبا، يعني فتحة صغيرة، فندب مسلمة الناس إلى دخول النقب ومحاولة فتح الحصن من الداخل، فما تقدم للدخول أحد؛ إذ الداخل غالبا مفقود. فجاء رجل من عرض الجيش فدخله، وفتح لهم، ففتحه اللّه على المسلمين وهزم الكافرين، فنادى مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاءه أحد، فنادى: إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلاّ جاء إن كانت لي عليه طاعة.

وأمر الحارس أن يدخله عليه إذا جاء في أي ساعة من ليلي أو نهار.. فجاء رجل فقال للحارس: استأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه. فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له فقال له: إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألاّ تسوّدوا اسمه في صحيفة “إلى الخليفة”، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه عن اسمه أو ممن هو. قال: فذاك له. قال: أنا هو. فأراد أن يتعرف على اسمه فلم يستطع، وأراد أن يكافئه فلم يقدر، فكان مسلمة لا يصلي بعد ذلك صلاة إلا قال: اللهم اجعلني مع صاحب النقب. (انظر “عيون الأخبار” لابن قتيبة، 1/265، وابن عساكر في تاريخ دمشق).

هل تعرفون عامر بن عبد القيس وقصته في فتح المدائن، ذكرها الطبري في تاريخه، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وصاحب صفة الصفوة، فقالوا ما ملخصه: لما هبط المسلمون المدائن -يعني في فتح بلاد فارس، والمدائن من أكبر مدنها، وجمعوا الأقباض -يعني الغنائم- جاء هذا بما عنده، وهذا بما عنده، ثم أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الناس الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقارنه، فقالوا له: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: “أما والله لولا الله ما أتيتكم به”، فعرفوا أن للرجل شأنا، ولم يكونوا يعرفوه، فقالوا: من أنت؟ فقال: “والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه”، فأتبعوه رجلا منهم ليعرف من هو فاتبعه حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عَبْد قيس.

كانوا أئمة كبارا، وأئمة عظاما، يجاهدون في سبيل الله، ويقومون بحق الله على مراد الله، لا يطلبون إلى رضاه.

أنه حال لا يخلو منه صادق ولا يبعد عنه متجرد مخلص.

وهل سمعت عزيز القارئ بأبي مسلم الخولاني، فاسمه عبد الله بن ثوب، وهو إمام كبير، وسيد من سادات التابعين، كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يعيش في اليمن ولم يستطع الهجرة إليه.. لما تنبأ الأسود العنسي في اليمن كفر قوم واتبع الأسود أناس، وكان أبو مسلم يدعو المسلمين إلى الثبات وعدم اتباع الأسود لأنه كذاب.

لما علم الأسود بما يصنعه أبو مسلم دعاه، فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. فاستشاط الكذاب منه غضبا، وأمر بنار عظيمة فأججت، وطرح فيها أبا مسلم، فلم تضره بأمر الله، وخرج منها سليما كما خرج إبراهيم عليه السلام من النار، فكانت عليه بردا وسلاما!! فقال أصحاب الأسود العنسي: إن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر.

فقام أبو مسلم إلى سارية من سواري المسجد يصلي، فبصر به عمر بن الخطاب، فقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن. قال: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله عز وجل أنت هو؟ قال: اللهم نعم. قال: فقبل ما بين عينيه، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن، عليه السلام. ثم ذهب أبو مسلم إلى الشام فعاش فيها إلى أن مات رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *