..لا حياة ولا اطمئنان للقلوب إلا بالسير إلى الله تعالى على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تصفح سير سلفنا الصالح سيجد أقوالهم وأفعالهم شاهدة على سعادتهم.
طريق تحقيق السعادة واحد لا يتعدد
وقد وضح الله عز وجل هذا الأصل الذي هو طريق السعادة توضيحا شافيا كافيا فقال جل جلاله: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” (النحل)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبُه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور مشروع عند الله بأن يحييه حياة طيبة في الدنيا، وأن يجزيه بأحسن عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل الراحة من أي جهة كانت”، وقد ذكر رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الحياة الطيبة بالسعادة، فإذًا لا حياة ولا اطمئنان للقلوب إلا بالسير إلى الله تعالى على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تصفح سير سلفنا الصالح سيجد أقوالهم وأفعالهم شاهدة على سعادتهم، كيف لا وهم الذين قال فيهم القائل:
إن لله عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحيّ وطنـــــا
جعلوها لجَّة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفــنا
فقد طلقوا الدنيا بالثلاث، والمقصود أنهم أقبلوا على الحلال فقط، وفروا من الحرام فرار المستبصر من التهلكة، فقد كان فيهم الغني والفقير والمعافى والمبتلى، الرجل والمرأة وكلهم كانوا سعداء، ذلك لأنهم أطاعوا رب الأرض والسماء، فالغني يتذكر دائما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إثباتا لفضيلة الغني التقي المتصدق: “نعم المال الصالح مع الرجل الصالح” (أخرجه أحمد وصححه الألباني في المشكاة)، فيسَخِّر ماله لسعادته في الدنيا والآخرة، فهو ينفق ويساعد ويبني ويواسي، وكلما زاد ماله ازداد سخاؤه، وهكذا كان حال أغنياء الصحابة كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وأرضاهم سخروا مالهم في طاعة مولاهم فأسعدهم في دنياهم وأخراهم، وأما الفقير منهم فدائما يضع نصْب عينيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم” (متفق عليه واللفظ لمسلم)، فكلما نظر إلى من هو دونه شعر بعظم نعم الله عليه، فيشكر ويسعد، خصوصا إذا علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إثباتا لفضيلة الفقير الصابر الصادق: “رب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره” (رواه مسلم) فيحمد الله تعالى على حاله ويسأله من فضله، ويكثر من ذلك كما قال بعض السلف: “يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك”، قال الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناه — وما يدري الغني متى يعيل
وهكذا كان حال الصحابة فالغني سعيد شاكر، والفقير سعيد صابر, وأما المعافى منهم فتذكِّره عافيته بنعمة الله العظيمة عليه، إذ عافاه وابتلى غيره، فبحمده وشكره يسخر هذه العافية في خدمة الإسلام والمسلمين فيسعده الله بذلك.
وهكذا أيضا المبتلى يسعد كلما سمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “من يُرد الله به خيرا يُصب منه” (أخرجه البخاري) فيصبر على ابتلائه وهو مع ذلك جنة الرضا بما قدره الله وقضى.
وهكذا الرجل إن عمل وأتقن عمله سعد، وإن أنفق على عياله من الحلال سعد، وإن رعى أسرته رعاية الصالحين سعد، والمرأة أيضا فهي سعيدة بالعمل في بيتها وطاعة زوجها، سعيدة بحجاب بناتها، سعيدة كلما علَّمت أبناءها، أو ساعدت على تعليمهم كلام الهي عز وجل، وهكذا فالكل راض بقدره متقنا لدوره ساعيا إلى تحسينه على هدى من ربه، فكانوا بذلك أنعم الناس عيشا وأقرّهم عينا، وأطيبهم نفسا، وأفرحهم قلبا.
فالسعادة كل السعادة في طاعة الله، والشقاء كل الشقاء في معصيته، قال بعض السلف: “إن لله جنة في الدنيا من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، قالوا وما هي؟
قال: معرفة الله”، وقال آخر: “إنه ليصل بقلبي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا، لهم في أطيب عيش”.
فمن ظن السعادة فقط في مال يكسبه، أو ثوب يلبسه، أو طعام يأكله، أو سفر يسافره، أو شهوة يقضيها، فالسعادة آبية عليه، ودونها بحار عميقة وأمواج عتيدة لا يمكن أن يقطعها إلا إدراك قارب الطاعة، واستعانة بمِجدافَي الخوف والرجاء، وتزود بزاد المحبة والدعاء، بهذا فقط تدرك السعادة، فمن رامها أو خالها في غيره فهو أعمى البصر والبصيرة، طُبع على قلبه حتى أصبح كالكـُوز مُجَخِّيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، ينبَّه فلا ينتبه، ويذكَّر فلا يتذكر، قال تعالى: “وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى”.