كثيرة هي الأمثال في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على عظيم محلها من الوحي السماوي، وجليل قدرها لمن تعقلها وفقهها، فهي ظروف معاني راقية، وأوعية هدايات عالية، ضربها الله تعالى للناس لعلهم يهتدون ويعون، وقد انتبه علماء المسلمين إليها، وأرعوها مسامع قلوبهم، وتتبعوها في الوحيين، وحاولوا الغوص في بحار ألفاظها لاستجلاب كريم معانيها، فسابح في بحارها، وغائص في أعماقها، ومستجم على شواطئها، وهو بين مستكثر ومستقل.
كان مما أثار انتباهي من تلك الأمثال، ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس».
وقع اختياري على هذا المثل لسببين رئيسين، أولهما أنه ملكي الضرب والتأويل، وثانيهما أنه شكل من التقريب لحقيقة الوحي والرسالة، وكنت دائما أعتقد أن التقريب لمعاني الوحي والرسالة للناس في زماننا هذا من شأنه كشف الستار عما حرصت قوى الظلام دائما على ستره، وتسليط الأنوار الكاشفة عن حقيقة ما ينبغي على المؤمن سلوكه، خصوصا في أزمنة الأزمات، وبيان طبيعة فتن هذه الحياة الدنيا وفتاتها، وعرض مثل هذه الأمثال اليوم بطريقة مناسبة سيكون موفيا لغرض التنبيه، والتوجيه والله المستعان.
لعل أول سؤال يخطر على قلب القارئ بعد تمام القراءة هو، ما سبب حضورهم عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهو سؤال مشروع ولطيف، وأيا كان سبب إرسال أولئك الملائكة، فإن كون ضرب المثل جزء من تلك الأسباب يدل على عظيم قدر ما ضرب له، وجليل مرتبة المعنى المخزون فيه، كيف لا يكون كذلك، وفيه تلخيص للأمر كله!؟
يبادر القارئ قول الملائكة: «إن لصاحبكم هذا مثلا»، وهي جملة توحي بأن لكل شيء مثلا، وبما أن المقصود بضرب المثال التعقل، فما وجه التعقل في هذا المثال المضروب للنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته؟
يثيرك في القصة أن الملائكة لم تقتصر على ضرب المثل فقط، بل أفصحت عن وجه تعقله وتأويله، فقالت: «أولوها له يفقهها»، وواضح بهذا أن الملائكة هي إحدى مصادر المعرفة النازلة على الأنبياء، وأنهم وسائط عالية بين الله ورسله، لا تفعل ذلك إلا بأمر رباني، فلا يؤخذ منها شيء بمجاهدة أو رياضة، خلاف ما يزعمه الصوفية أدعياء الكشف والفلاسفة منتحلو الاتصال العقلي من قدرتهم على التلقي عمن يتلقى منه النبي المختار والمجتبى.
هي مأدبة الله تعالى للمؤمنين، والدار داره، والداعي رسول من رسله الذي تعاقبوا على تبليغ الدعوة، وليس من مجال للشك أن الداعي هو الوحيد المخول بذلك، وهو الوحيد الذي يعرف الطريق إلى الدار، فكل من ادعى أنه يعرف الطريق دون حاجة إلى هداية الرسول فهو مدع لا داع!
زعم ابن رشد على رأس طائفة من المتفلسفين ومن جاء بعدهم من الحداثيين أن العقل يستطيع أن يهتدي إلى الدار وينال من المأدبة، وأن طريقه سيكون موازيا لطريق الأنبياء، وهذا كذب أزرق، فلا طريق إلى الدار والجنة إلا بهداية الرسل، وليس من مأدبة تستحق كل هذا سوى مأدبة الله، وما يزعمه عباد العقل من قدرتهم على تحصيل مأدبة الدنيا إن هو إلا فتات على حساب المأدبة الكبرى، ولا يفضل الفتات على المأدبة إلا الحمقى.
الناس إذن بين حالتين، إما الإجابة، وإما عدمها، فمن أجاب فقد أطاع، ومن ردها فقد عصى، ومن عصى لم يدخل الدار، ولم يحصل المأدبة، هكذا مثل الملائكة للأمر، وهو موافق لقوله عليه الصلاة والسلام: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى».
ثم أمر آخر ينبغي الانتباه له، وهو أن الإجابة تعني المتابعة، خطوة خطوة، دون أن تخطئ عين القلب خطوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلى جنبات الطريق قطاعه، يجهدون أنفسهم لينحرف الناس عن المتابعة، حتى إذا تمكنوا من أحدهم بغواية، أضلوه الطريق، فرموه في النار.
الجميل في كل هذا فقه البخاري في تبويبه للحديث، فإنه جعله تحت قوله: «باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، في الحلقة المقبلة، مثل آخر، وفقه آخر!