مما لا شك فيك ولا ريب؛ أن العلماء ورثة الأنبياء قد كلفوا بمهمة عظيمة هي مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهي مهمة تأتي في مقام ميراث النبوة؛ قال جل جلاله:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].
وكانت هذه المهمة دالة على خيرية الأمة على غيرها من الأمم؛ قال سبحانه:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110].
وليس مجرد تحصيل العلم دال على شرف صاحبه؛ بل إن القيام بهذا الواجب بالعلم الشرف بعينه، قال سبحانه:
﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113-114].
كما أن إغفاله سبب من أسباب الهلاك العام للأمة نظرا لغياب الفرض الكفائي؛ قال جل في علاه: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 165]؛
وقال سبحانه عن حال بني إسرائيل: (لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرائيلَ عَلى لسان دَاودَ وعيسى بن مَرْيَمَ ذلكَ بِما عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدونَ. كَانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَر فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلونَ) (المائدة: 78- 79).
فالعالم بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر يدفع عن نفسه وعن أمته الهلاك، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:71].
والقيام بهذه الشعيرة من أسباب حصول الصلاح في الفرد والمجتمع؛ قال سبحانه:
﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة:112].
وتأمل معي -وفقني الله وإياك- كيف وصف الله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الآية، بأنهم من أهل العبادة و الذكر والقيام؛ للدلالة على أن أهل الحسبة يجب أن يكونوا أولا من الصالحين قبل إصلاح غيرهم، حتى لا يكونوا من الذين يقولون ما لا يفعلون.
وإنما شرف الله العلماء للقيام بهذا الأمر الجليل لحصول العلم الشرعي لديهم؛ فبه يفرقون بين الحلال والحرام؛ ويعرفون مواقع الزيغ في الأمة؛ فتأتي وظيفتهم للإصلاح، وهذا هو الفرض الكفائي الذي قال عنه سبحانه:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:122].
وقال سبحانه: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُون مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّة يَنْهَوْنَ عَن الفَسَاد في الأَرْض إلاَّ قَليلاً مِمَّنْ أنْجَيْنَا مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فيه…) (هود:116).
ولقد حذر القرآن الكريم من خطر سكوت أهل الحق في وجه أهل المنكر؛ حتى ولو كانت سطوة أهل المنكر غالبة؛ فأداء فرض النصح لازم؛ قال سبحانه عن بني إسرائيل:
(وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ منْهُمْ لمَ تَعظُونَ قَومًا اللهُ مُهْلكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَديدًا قَالُوا مَعْذرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به أَنجَيْنَا الَّذينَ يَنْهَوْنَ عَن السُّوء وَأَخَذْنَا الَّذينَ ظَلَمُوا بعَذَاب بَئيس بمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خَاسئينَ) (الأعراف: 164-166)، فكان قيام أهل الحق بواجبهم من أسباب نجاتهم من العذاب.
وهكذا كان حال الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم؛ صراع بين الحق والباطل؛ وأداء لواجب الأمانة نصحا للأمة؛ وعبادة لربها.
إلى غيرها من الآيات البينات الدالة على عظم هذه العبادة عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشرف القائم بها وخطورة تعطيلها وآثار ذلك على الفرد والمجتمع.
يتبع..