سألنا أحد أساتذتنا الجامعيين يوما سؤالا فقال: ..ماذا لو أزيح تاريخ الفرق كله.. وأعيد ربط الحاضر بمجتمع الصحابة رضي الله عنهم؟ ما التوحيد والإيمان الذي سيكون عليه الناس اليوم؟
لم يكن السؤال إلا نوعا من الاستفزاز العلمي، سؤال يدفع إلى الغوص بعيدا في عمق ترسبت فيه كثير من الحقائق التي يجب كشفها ونشرها بين الناس، ليردوا إلى الأمر الأول، قبل اختلاطه بالشوائب… والمصائب.
لم يكن هذا هو السؤال الذي دفعني لكتابة هذا المقال، بل سؤال آخر له قدرة استفزازية أشد، جعلني أتوقف كثيرا عنده، باحثا عن مسوغ علمي ومنهجي لطرحه بين يدي الناظر الباحث، كان السؤال في شكله يقوم على الصيغة التالية: هل يمكن أن يكون الأشعري والصوفي حنبليا في المعتقد؟
لا أشك أن القارئ سيجد نفسه مبتسما بسبب التنافر الظاهري بين مكونات السؤال، لكنني سأعينه على التخفيف من صدمة التنافر بينها، ليشاركني في الفائدة المنهجية من طرحه.
ثمَّ نصان مثيران أنتجا هذا السؤال، أما الأول فهو نص مشهور جدا، أقلق كثيرا من المتعصبين، وجعلهم متفرقين بين متأول متكلف، وناف مشكك، ولم يكن هذا النص سوى قول أبي الحسن الأشعري في كتابه “الإبانة”:
‹‹قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله ربنا عز و جل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيع الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم››.
فالأشعري يتحدث عن قول ودين يدين به، فالأمر جد ليس بالهزل، وما كان للأشعري إلا أن يكون على هذا المستوى من الوعي والفهم، ولذلك وقع اختياره على القرآن والسنة وما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين وأئمة أهل الحديث والأثر، وهو كلام غاية في الوضوح والصراحة، يشف عن حالة رجوع صادقة للأشعري عما كان عليه من الانحراف، وتجد شواهد هذه الحالة في استعماله لكلمة ‹‹معتصمون››، وكأنه يتحدث عن حالة وجدان لما يتمسك به في يوم عاصف بريح ضلال عاتية، وما يزيد الأمر بيانا إشارته إلى أن اختياره تابع لما كان عليه أحد أئمة الحديث الكبار، وهو الإمام أحمد بن حنبل، والذي كان في فتنة خلق القرآن بعد الله تعالى سببا في الاعتصام منها، فكان كما وصفه الأشعري الإمام والرئيس الذي ‹‹أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج››، وبهذا تستشعر حالة نفسية مثيرة للإمام أبي الحسن الأشعري، تؤول نحو الدلالة على نوع مثابة وعودة، فهو العائد المعتصم بما أظهره الله على يد الإمام أحمد بن حنبل، فهل يعد أبو الحسن الأشعري بهذا حنبليا في المعتقد؟
يعد الشيخ العارف عبد القادر الجيلاني واحد من كبار أصول التصوف في تاريخ الإسلام، وقد نال هذه الشخصيةَ ما نال غيرَها من تحريف التصوير، وإفساد التصديق، فنسبت إليه مسائل لا يحتاج المرء للطعن فيها أكثر من ذكرها، وتزيَّد الناس فيه، وكأنهم يسرقونه من داره، ويتسللون به لواذا، لكن التاريخ أبى إلا أن يحفظه من كيد أناس، ومكر آخرين، وقد صار عبد القادر الجيلاني اليوم أصلا من أصول ثلاثة للطرق الصوفية في العالم الإسلامي كما يقول الحجوي في الفكر السامي، وعده ابن عربي في الفتوحات المرجع في معرفة أحوال المتصوفة، وكأنه إمام في الجرح والتعديل في المنسوبين إلى التصوف، وهذا يعني ولابد القدم الراسخة والكعب العالي.
ذكر الشيخ أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري الشاعر المشهور عن شيخه العارف علي بن إدريس أنه سأل الشيخ عبد القادر فقال: ‹‹يا سيدي، هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: ما كان… ولا يكون!››.
ليس المثير في النص جواب الشيخ عبد القادر، بل السؤال نفسه، فهو كاشف عن سياق عام وخاص للسائل، فلم يسأل هذا الرجل هذا السؤال؟ ما الذي دفعه إليه؟ هل سقط هذا الرجل من عصرنا عندهم؟ ولماذا يختار عبد القادر الجيلاني ليسأله؟ ثم، لم هذا الحزم من الجيلاني في الجواب بهذه الطريقة الحادة الجامعة المانعة؟
كان عبد القادري الجيلاني حنبليا قحا، وكتابه “الغنية” يغني عن البحث في غيره، وقد شرح ابن تيمية الحنبلي جملا من كتابه الآخر “فتوح الغيب”، وهذا يعني أنه لا يشك في نسبته إلى العقيدة الحنبلية، لكن، لم نسبتها إلى أحمد بن حنبل، أليست هي العقيدة الإسلامية؟
كان ابن تيمية الحنبلي واعيا بهذا، فبادر إلى الجواب بقوله في “درء تعارض العقل والنقل: ‹‹والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله، حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف، معرفته والإيمان به، وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ: الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد أبن حنبل. وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة، وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات، ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء، ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين، فظهرت بهم السنة، وطفئت بهم نار المحنة، فصاروا علَما لأهل الإسلام، وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين أهل السنة والجماعة، وصار كل منتسب إلى السنة لابد أن يواليه وإياهم ويوافقهم في جمل الاعتقاد، إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد، المعتصمين بالكتاب والسنة، وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان››¬.
لأجل هذا صرح أحد السلاطين المغاربة العلويين بأنه حنبلي المعتقد، في وقت احتاج فيه إلى استرجاع حالة الاعتصام في الفتنة، وكذلك نحتاج نحن اليوم، للاعتصام بالكتاب والسنة، بتسمية الإمام أحمد رمزا للثبات وعدم التبديل، ولأجل هذا أسأل، هل أتباع الأشعري وعبد القادر الجيلاني اليوم حنابلة في المعتقد، أم دخلهم مثل غالب أتباع الأئمة وهَن وتبديل، وضعف في المتابعة والالتزام؟ لم لا نرجع جميعا إلى ما كان عليه أبو الحسن الأشعري في الإبانة، وما أظهره الجيلاني من النسبة الحنبلية وأبانه؟ لم لا نرجع إلى كلمة سواء جامعة…ونزيح تاريخ الفرق كله…؟