سلسلة جوانب من منهج السلف في تربية الأطفال الجانب الاجتماعي (9) ذ.رضوان شكداني

لقد حرص السلف الصالح على تنشئة أبنائهم التنشئة الاجتماعية التي تجعل الطفل منذ نعومة أظفاره متكيفا مع المجتمع بمختلف مؤسساته، وملتزما بالآداب الاجتماعية، عارفا لحقوق المجتمع والقوانين والنظم السائدة فيه حتى يتمكن من التعايش مع أفراده على أسس المحبة والاحترام والأخوة والتعاون، دون أن يخل ذلك بجرأته في إثبات ذاته، وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع من تلاحم وتلائم فقال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” رواه البخاري برقم (5665)، ومسلم برقم (2586)، واللفظ له.
ومن أهم جوانب التربية الاجتماعية عند السلف تنشئة الطفل على بر الوالدين، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} الإسراء:23-24.
وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صَحَابَتي؟ قال: أمك. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثم أبوك”.رواه البخاري برقم5626 ومسلم برقم 2548.
وعن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أي العمل أحب إلى الله تعالى”؟ قال: (الصلاة على وقتها)، قلت ثم أي قال: (بر الوالدين) قلت ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله). رواه البخاري برقم527.
ومنها كذلك رعاية حقوق ذوي الأرحام فقد أمر الله -بالإحسان إلى ذوي القربى، وهم الأرحام الذين يَجِبُ وَصْلُهم-، فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينِ وَالْـجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْـجَارِ الْـجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْـجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} النساء:36.
وجعل سبحانه صِلَةَ الرحم توجب صِلَتَه سبحانه للواصل، وتتابع إحسانه وخيره وعطائه له، وذلك كما دَلَّ عليه الحديث القدسي الذي رواه عبد الرحمن بن عوف قال: سمعتُ رسول الله يقول: قال الله: “أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ” رواه أبوداود برقم 1694.
ومن أنواع التنشئة الاجتماعية للطفل عند السلف تربيته على الاحترام والتوقير لكبار السن والعلماء وأهل الشأن، فقد جاء شيخ ذات يوم يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يُوسِّعوا له، فَرَقَّ له رسول الله ورَحِمَه، وقال: “ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه” رواه الترمذي 1919 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5445.
وقال التابعي الجليل طاووس بن كيسان -رحمه الله-: “من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد”. رواه معمر في جامعه11/137
وعن ليث قال كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: ” لو علمت أنك أسن مني في ليلة ما تقدمتك” الحلية 3-167.
وقد وجه الحسن البصري ابنه إلى مجالسة العلماء فقال له: “يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثاً وأن طال حتى يمسك” جامع بيان العلم وفضله 1/130.
ومن الحقوق الاجتماعية الهامة التي يجب أن ينتبه لها المربون، هي حث الأطفال على اختيار الصحبة الصالحة والأصدقاء الأخيار، وكذلك الحرص على أن يختار المربي للطفل من يصحبه من الأقران فعن علي بن جعفر قال: “مضى أبي إلى أبي عبد الله يعني الإمام أحمد وذهب بي معه، فقال له: يا أبا عبد الله! هذا ابني، فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق، وجنبه أقرانه”. رواه الخلال في الحث على التجارة 29.
قال ابن الجوزي: “وليحمل -أي الطفل- على صحبة الأشراف والعلماء وليحذر من مصاحبة الجهال والسفهاء فإن الطبع لص” صيد الخاطر ص 220.
قال إبراهيم الحربي: “أول فساد الصبيان بعضهم من بعض” ذم الهوى ص97.
وقال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
حثهم على احترام الجار وحسن معاملته ومن توجيهات السلف الاجتماعية لأبنائهم
فالجار في الإسلام مكرم أيّما إكرام، محترم أيّما احترام، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مازال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه”. رواه مسلم برقم2624.
فعلى المربي الناجح أن يوجه الطفل إلى كف الأذى عن الجار وحمايته والإحسان له ورفع الضرر عنه، واحتمال أذى الجار والصفح عليه.
كما ينبغي توجيه الطفل إلى أدب الاستئذان على غيره، فالاستئذان أدب اجتماعي رفيع وهو واجب على الكبير والصغير، وله مكانة خاصة في التشريع الإسلامي حتى خصه الله تعالى بآيات مباركات كريمات كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم”. النور:59-60.
قال ابن كثير: “يعني: إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث” تفسير القرآن العظيم6-84.
وقد شرع الاستئذان لصيانة حرمات البيوت، وعدم هتك أستارها، وعدم النظر بداخل البيت لحديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: اطلع رجل من جُحرٍ في حُجَر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع النبي -صلى الله عليه وسلم- مدري -أي مشط- يحك به رأسه فقال: “لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جُعل الاستئذان من أجل البصر”. رواه البخاري:5580.
وعن عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي رَيْحَانَةُ، أَنَّ أَهْلَهَا أَرْسَلُوهَا إِلَى عُمَرَ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَعَلَّمَهَا فَقَالَ لَهَا: “اخْرُجِي، فَسَلِّمِي، فَإِذَا رُدَّ عَلَيْكَ فَاسْتَأْذِنِي”. رواه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم 25082.
فيجب على المربين أن يرشدوا الأطفال إلى أدب الاستئذان في الزيارة بأن يسلم ثمَّ يستأذن، بأن يعلن عن اسمه أو كنيته، وأن يستأذن ثلاث مرات، وأن نعلم الطفل أن لا يدق الباب بعنف بل يقرع الباب قرعا خفيفا يدل على أدبه ولطفه، وإذا طلب منه رب المنزل أن يرجع فيعلموه الرجوع دون حرج ولا تذمر.
كما ينبغي أن يرسخ في نفس الطفل أن التحية التي من شأنها أن تؤلف القلوب وتقوي الصلات، وهي مظهر من مظاهر إشاعة المحبة بين أفراد المجتمع كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم”. رواه مسلم:54.
فيعلم الطفل أن السلام سنة مؤكدة، وأمّا ردّه فهو فرض لازم لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَو رُدُّوهَا} النساء:86.
وأن يعلم أن من آداب السلام أن يُسلم القادم على من يقدم عليه، والراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير”. رواه البخاري:6232.
وأن نعلمه إذا دخل على أهل بيته، أن يلقي عليهم السلام فعن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك. رواه الترمذي:2841.
ومما يقوي صلة الطفل بمجتمعه اصطحابه للمجامع والمجالس والمحافل.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ”، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ الْتَفَتُّ، فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ، أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هِيَ النَّخْلَةُ” رواه البخاري:5448.
وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم النِّساء والصِّبيان مقبلين -قال: حسبت أنَّه قال: من عرس -فقام النَّبي صلى الله عليه وسلم مُمْثِلا فقال: “اللهمَّ أنتم من أحبِّ النَّاس إليَّ. قالها ثلاث مرار”. رواه البخاري:3587 ومسلم:2508.
ومن الأمور المهمة التي تنمي الحس الاجتماعي عند الطفل تعليمه الجرأة على طرح أفكاره، ويكون هذا بمجالسة العقلاء الكبار ليكبر عقله وينضج تفكيره؛ فمن الخطأ أن يمنع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، وقد مر عمرو بن العاص -رضي الله عنه -على حلقة من قريش فقال: «ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا! أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه؛ فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم» شرف أصحاب الحديث ص65.
بل كان ابن شهاب الزهري -رحمه الله- يشجع الصغار ويقول: “لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم”.. رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/85.
فمن الثابت تجربة وواقعا أن سلامة المجتمع وقوة بنيانه وتماسكه، مرتبطتان بسلامة أفراده ومن هنا كانت عناية السلف بتربية الأطفال اجتماعيا حتى إذا تربوا وتكونوا وأصبحوا يتقلبون على مسرح الحياة أعطوا الصورة الصادقة عن الإنسان الانضباطي المتزن العاقل الحكيم وحققوا الانسجام المطلوب مع الواقع والمحيط وكانوا أشخاصا فاعلين في مجتمعهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *