توالت المواقف والردود، وقد تكون بشكل يومي أحيانا من طرف أناس من مشارب ومستويات وفئات مختلفة تدل بشكل مخيف ومستفز أن فكر الإرجاء صار مسيطرا على عقول كثير من الناس، يعلنونه بكل أريحية دون أن يكونوا على علم بما هم عليه من فكر منحرف ضال يجعلهم يعيشون على الرجاء المخل دون خوف، وعلى الغرور الهالك دون شعور بالتقصير.
الإرجاء الذي يدعي أن الايمان بدون عمل يكفي صاحبه لدخول الجنة والنجاة من النار وإن لم يعمل خيرا قط، وإن كان غارقا في وحل المعاصي إلى أخمص القدمين، إنه فكر هدام ينقض الشريعة من أصلها، ويحصرها حصرا مخلا في الإيمان بالقلب فقط، ويسقط العمل الفعلي والقولي من الحسبان، وعلى هذا المنطق يعيش كثير من المسلمين بوعي أو بدون وعي، وذلك نتيجة الجهل بدين الله الذي ساد حتى ساد، ونتيجة النفـَس الانحلالي والسلوك المنحرف الذي صار منهج حياة فصرف الناس عن صالح العمل، والالتزام بشعائر الشريعة الإسلامية ظاهرا وباطنا، فكثرت المبررات والتصورات الخاطئة.
وتجد المرء يترك المأمورات دون شعور بالذنب، ويمني نفسه ويسليها بـأن الله غفور رحيم، وآخر يرتكب الموبقات ويقول بأن الله سيغفر لي ما دمت لا أشرك به، وأخرى تقول إنه لا يهم العمل ما دمنا سندخل الجنة برحمة الله وليس بأعمالنا، ومن تقول إن العبادة ليست مهمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيشفع لنا، وآخر يقول إنه يمكن أن تدخل الجنة وإن لم تأت بأركان الاسلام، فقط إذا سقيت كلبا كما في حديث بغي بني إسرائيل، ومن الناس من يقول بأنه يعبد الله فقط بحرصه عل كسب رزقه بعرق جبينه وجهد كتفه فلا تهم العبادات الأخرى… ومن يوقن بقبول عمله حتى وإن أداه على أي وجه، فالمهم مثلا هو الصلاة كيفما أداها…
وهلم جرا من فكر طغى ولا يكاد يمرُّ يوما إلا وأسمعه من بعضهم حتى ظن الناس أن دخولهم إلى الجنة ليست إلا مسألة وقت كما يقال، وهذا أمر خطير ينبغي أن تقرع له نواقيس الخطر، وأن يهتم العلماء والدعاة لا سيما خطباء الجمعة بتنبيه الناس إلى خطورة هذا التصور والاعتقاد الذي يحرمهم لذة عبادة الله في الدنيا وسعادة الجزاء في الآخرة.
ولو عرضنا هذا الواقع وهذا الفكر المنتشر على نصوص الشرع وواقع السلف لاستحيا الواحد منا حين ينسب نفسه إلى عبادة الله أصلا، بله أن يظن أنه على خير وفلاح، فلنتأمل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات. وقال الحسن: لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها.
ومن حال السلف أنه جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لابْنِه: أعْطِهِ دِينَارًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً، أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِليَّ مِنَ الْمَوْتِ، أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ: ذكره ابن عبد البر في التمهيد.
وروى ابن سعد في الطبقات بسند صحيح أن عثمان بن عفان قال: كنت أنا آخر الناس عهداً بـعمر، دخلت عليه بيته ورأسه في حجر ولده عبد الله، فنظر عمر إلى ولده وقال: يا عبد الله! ضع رأسي على الأرض، فنظر عبد الله وقال: يا أبتِ! وهل هناك فرق بين أن تكون في حجري وبين أن تكون على الأرض؟ قال عمر: يا عبد الله! ضع هذا على الأرض، يا عبد الله، ضعها على الأرض، ثم يقول عمر: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي. وقال لذلك الشاب: والله لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليَّ.
هذا عمر المبشر بالجنة يقول هذا ثم يأتي من يأتي منا ويظن أنه على شيء وليس بشيء، ويأتي من ليس على شيئا أصلا ثم يعتقد النجاة في يوم لا ينفع فيه إلا العمل الصالح الذي يؤديه العبد بإخلاص. ولكنه آخر الزمان الذي تكلم عنه أبو العالية الرياحي بعين البصيرة، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي العالية قوله: يأتي على الناس زمانٌ تَخْرُبُ صدورُهم من القرآن، ولا يجدون له حلاوةً ولا لذاذةً، إن قصّروا عما أُمِروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نُهوا عنه قالوا: سيُغفر لنا إنا لم نشرك بالله شيئا! أمرُهم كلُّه طمع ليس معه صدق، يلبسون جلود الضّأن على قلوب الذئاب أفضلهم في دِينه المداهِن.