من رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة أن خصها بمواسم خير كثيرة يتنافس فيها المتنافسون لنيل رضا رب العالمين والفوز بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
فخصها بيوم عرفة الذي أتم الله فيه النعمة وأكمل فيه الدين كما قال تعالى في هذا اليوم العظيم: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”، وخصها بيوم الجمعة- أفضل يوم طلعت فيه الشمس- بعد أن ضل عنه اليهود والنصارى، وخصها بخمس صلوات في اليوم والليلة- خمس في العمل وخمسين في الأجر-، ومن أعظم ما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. وفي هذا الشهر ليلة لا يعلم قدرها إلا خالقها سبحانه وتعالى، ليلة العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر.. إنها ليلة القدر التي امتن الله على أمتنا بأن خصها بها دون غيرها من الأمم.
ومما ذكر في سبب اختصاص أمتنا بهذه الليلة المباركة ما رواه الإمام مالك رحمه الله في موطئه: أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر” الموطأ، كتاب الاعتكاف، باب ما جاء في ليلة القدر.
ومما يدل على عظم شأن هذه الليلة أن الله جل جلاله أنزل فيها سورة سميت باسمها، قال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر”
فقوله تعالى: “وما أدراك ما ليلة القدر” تفخيم لشأنها وتعظيم لقدرها، يقول الشيخ بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره: “وهذا مما تتحير فيه الألباب وتندهش له العقول، حيث مَنَّ الله تعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرا طويلا نيف وثمانين سنة”.
الاختلاف في سبب تسميتها بليلة القدر
وقد اختلف العلماء في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر على أقوال كثيرة:
– فقيل إنها سميت بذلك لعظم قدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر أي شرف ومنزلة.
– وقيل سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وثوابا جزيلا.
– وقيل سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها.
– وقيل سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، كما قال تعالى:” إنا أنزلناه في ليلة القدر” يعني القرآن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفصلا حسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.
– وقيل لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر.
وهذه الأقوال راجعة إلى أن المراد بالقدر التعظيم، كما قال جل في علاه: “وما قدروا الله حق قدره” أي ما عظموه حق تعظيمه.
وعلى القول بأن المراد بالقدر التضييق، كقوله تعالى: “ومن قدر عليه رزقه” أي ضيق.
قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء سميت ليلة القدر لما تكتب الملائكة من الأقدار لقوله تعالى: “فيها يفرق كل أمر حكيم”.
وقيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: بلى، قيل: فما معنى ليلة القدر؟ قال: سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدر.
إخفاء ليلة القدر
شاء الله جل وعلا أن يخفي هذه الليلة العظيمة لما في ذلك من الحكم والأسرار، فكما أخفى سبحانه ساعة الإجابة يوم الجمعة وساعة الإجابة من الليل.. فقد أخفى جل في علاه هذه الليلة.
قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره: “وأخفاها تعالى كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغب عباده في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان، فإن العبد إذا لم يتيقن أي ليلة هي، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، وعلى هذا فيحصل للمسلم الذي يقوم بحق تلك الليلة الثواب وإن لم يعلمها” انتهى.
يقول الإمام ولي الدين بن الحافظ الزين العراقي في كتابه شرح الصدر بذكرى ليلة القدر: “أما تحديد ليلتها، فقد أخفي عن أعين الناظرين، ليجتهد العباد في تحصيل الزاد، وفي إخفاء هذه الليلة وعدم تعيينها الكثير من الحكم والأسرار.
فمنها: أن يجتهد من يطلب هذه الليلة في عبادة ربه في جميع الليالي، وهذا ما فعله سلفنا الصالح.
ومنها: التنافس في الخيرات بتحصيل الكثير من الطاعات، من ذكر واستغفار وصلاة ودعاء.” انتهى.
وعليه فقد اختلف العلماء في تعيينها على أقوال كثيرة جاوزت الأربعين استوفاها كثير من العلماء في كتبهم، كالإمام الشوكاني في نيل الأوطار والحافظ ابن حجر في الفتح، وقد رجح الحافظ أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل، وأن أرجاها أوتار العشر، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين.
وهذه بعض الأدلة على أرجح الأقوال:
– عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان”.
– وعن عائشة رضي الله عنها أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان” أخرجهما البخاري في كتاب فضل ليلة القدر من صحيحه.
– ومن الأدلة على أنها ليلة سبع وعشرين -وهو مذهب الجمهور- ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زر بن حبيش قال: سمعت أُبَي بن كعب يقول، وقد قيل له إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان، يحلف ما يستثني، ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها.
غنيمة عظمى
إخواني، إن ليلة القدر ليلة عظيمة الشأن علينا أن نتنافس في إحيائها، فليلة العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر، وقيامها سبب لمغفرة ما تقدم من ذنب ووزر كما قال صلى الله عليه وسلم: “ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”، ليلة بهذا الشأن لا يزهد فيها إلا من حرم الخير عياذا بالله.
فجدير بنا، أن نشمر على ساعد الجد ونجاهد أنفسنا في إحياء جميع ليالي رمضان، وبالخصوص العشر الأواخر حتى نوافق بإذن الله هذه الليلة المباركة. وليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فقد أخبرت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله” البخاري، وما ذلك إلا لعظم شأن هذه الليالي التي أخبرنا الصادق المصدوق أن نتحرى ليلة القدر فيها.
ويستحب في هذه الليلة أن يكثر المسلم من التسبيح والتحميد والتهليل والصلاة على النبي المختار، والإكثار من التوبة والاستغفار والتضرع إلى العزيز الغفار، وأحسن ما يدعو به المسلم ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “يا رسول الله، إن علمت ليلة القدر بماذا أدعو فيها؟ فقال رسول الله قولي: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.