ذكرت في مقال العدد الماضي لمحة يسيرة من ركام النتن الذي تضج به مؤلفات مادة اللغة العربية في التعليم الثانوي التأهيلي، ولايمكن أن تكون كثرتها وتواترها إلا مقصودة، لغاية معلومة سلفا. ولن تكون غاية الذين انتخبوا هذه المؤلفات -وهم الذين يصرون على الاختلاط بين الجنسين في المؤسسات التعليمية- إلا إشاعة الفاحشة في شباب الأمة، وتهييج شهواتهم.
فتثبّت المؤسسات “التربوية” ما نفثته المشاهد الخليعة، والقصص الماجنة في المسلسلات المدبلجة، ومواقع النت الإباحية في نفوسهم. فتكمل نزوات الشباب طوقها فيندفع “المتعلم” لا لإشباع نهمته من العلم؛ فقد أطفأتها الغريزة الهائجة، بل لإطفاء الشهوة المستعرة..
وأنتقل هنا إلى عرض بعض المخالفات العقدية. أوطئ لها بهذا الاعتراف الذي أراه من خذلان الله سبحانه لهذه الطائفة”الحداثية” فيفضح الواحد منهم سقيم رأيه بلسان نفسه.
ففي كتاب “الشعرية العربية” يعترف أدونيس بما يدمغه ويسقط كتابه. ويجعل استنتاجاته غير ذات قيمة، في مقياس البحث العلمي المنصف، يقول (ص.92): (وأحب أن أعترف أيضا، أنني لم أتعرف على الحداثة الشعرية العربية، من داخل النظام الثقافي العربي السائد وأجهزته المعرفية، فقراءة “بودلير” هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفت لي عن شعريته وحداثته. وقراءة “مالارميه” هي التي أوضحت لي أسرار اللغة الشعرية وأبعادها الحديثة عند أبي تمام. وقراءة “رامبو” و”نرفال” و”بريتون” هي التي قادتني إلى اكتشاف التجربة الصوفية بفرادتها وبهائها. وقراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني …).
قلت: إن هذا الاعتراف يسقط كلام كاهن الحداثيين العرب وسادن معبدهم من سلم البحث العلمي الرصين. فهو حقيقة لا ينسحب على شعر أبي نواس وأبي تمام ولاغيرهما من شعراء العربية، بل ولا على أفحش ما صدر عن بعضهم، أو نسب إليهم ولم يثبت.. وإنما ينطبق على أولائك المذكورين من شعراء فرنسا، فأُسقِط عسفا على شعراء العربية بعد مئات السنين من موتهم. ولو كانوا أحياء لأنكروه أشد ما يكون الإنكار. ولكن رُبّ حي واحد يغلب ألفا من الأموات.
ولعل هذا ما يفسر خلو الكتاب من الشاهد الشعري خلوا تاما. إلا أبياتا قلائل لأبي نواس، والعجيب أن تكون من غير شعره الماجن.
أفلا تكون علة ذلك أن الكاتب لم يجد في أشعار القوم ما يكفي لإسناد مقالته، فأرسلها صفرا عارية من كل دليل: من شاهد أو مثل أو إحالة مرجعية؟
المخالفات العقدية
وأما ما يتصل بالمخالفات العقدية فلا ريب أنها أعمق خطرا مما مرّ قبلُ.
وأول ذلك: استباحة المنكرات مما ذكر وغيره. إذ يقتحمها الفاعلون جرأة وإصرارا، ويرويها الكاتبون إعجابا وإكبارا، بل يعدّون ذلك ثورة وتحررا، وإسقاطا للتقاسيم الشرعية من حلال وحرام، وأمر نهي، وطاعة ومعصية…
وفي هذا المعنى يقول كاهن الحداثيين العرب أدونيس (ص.67): (إن خرق المحرم يولد فوضى الغبطة، التي هي نوع من هدم النظام الثقافي الأخلاقي القائم، ونوع من الوعد الواثق بمجيء ثقافة لاقمع فيها، ولاقيد، ثقافة تخرج على قيم الأمر والنهي، وتتيح الحياة بشكل يتم فيه التآلف بين إيقاع الجسد وإيقاع الواقع في موسيقى الحرية).
واضح أن عبارة “ثقافة الأمر والنهي” عند هذا المأفون -وهي عنده قمع وقيد- لقب لايعني به غير أوامر الشريعة السمحة ونواهيها.
ومن ذلك: الاستهزاء بالشريعة وأحكامها كما في قول طه حسين: (كذلك كنت أفكر مستخزيا متضائلا من الخزي بينما كان صاحبي يغرق في الضحك، حتى إذا أعياه اضطراب جسمه هدأ بعض الوقت يتكلف الهدوء، ثم لا يلبث أن يعود إليه الضحك العنيف فيهزه هزا عنيفا، وهو يردد كلمة “المعصية” هذه ويقول: مازلت تؤمن بالطاعة والمعصية وتردد هاتين الكلمتين. ومازلت تفكر في الكفر والإيمان.. ثم يمضي في الضحك. وأمضي أنا في الخجل والاستخزاء…) ( أديب، ص.69)
وقد استهلك الكاتب ثلاث صفحات كلها في هُزْء صاحبه بمفردات الشريعة. وإحساسه هو بالخزي والعار لأنه صدر منه ما قد يدل على بقية من إيمان بأحكام الشريعة. (ص.67..69).
وفي الكتاب مواضع أخرى فيها نحو ذلك، بل شرٌّ منه.
ومثله: الاستهزاء بالمؤمنين فقد حشا كاتب “أديب” أوراقه بمقاطع كثيرة ليس فيها غير شتم شيوخ الأزهر وطلابه، ونبزههم بأقذع الأوصاف كما في (ص81..84): أربع صفحات كاملة، كلها سباب وشتم لشيخ أزهري ومما جاء في ذلك: (والله يعلم فيم ينفق شيخك الحمار أوحمارك الشيخ نهاره. وأكبر الظن أنه سيكذب ويمكر ويكيد، ويسعى بين الناس بالشر، ويظهر الطاعة والعبادة بين ذلك، فيؤدي الصلوات في أوقاتها، ويضع جبهته حيث يريد الله لها أن توضع في هذا المسجد أو ذاك من المساجد التي تلقاه في بعض الطريق..) (ص.83).
ومقابل هذا العداء للإسلام والازدراء لأهله وشرائعه يقف هؤلاء الكتاب موقف تبجيل لأهل الكفر وإكبار لثقافتهم؛ فهذا تعليق من أحدهم في “الحي اللاتيني” على مسرحية تابعها في أحد مسارح باريس، واعترف أنها غير أخلاقية. ومع ذلك قال (ص.85): (لاريب أن هذه المسرحية لاأخلاقية. فهي لاتخلف لدى المشاهد أي استنكار للخيانة الزوجية التي يدور حولها الموضوع. على أن ما يحمد للفرنسيين أنهم يقتحمون أدق المشكلات التي يواجهونها، بالغا ما بلغت من الجرأة. وأنا أعتقد أن هذا هو خير سبيل لمواجهة هذه المشكلات، والتماس الحلول لها…
أليس أدباؤنا مقصرين في هذه الناحية؟ ألا تراهم يتفادون في آثارهم من إثارة كثير من المشكلات التي تمس حياتنا، خشية من حماة التقاليد؟) .. فيعلق الآخر منبهرا بهذا التعليل “الخارق”: (أي حس نقدي هذا الذي تملكه يا فؤاد!).
وأخطر من هذا أنهم يزعمون أن همجية أوربا وإباحيتها هي السبيل الذي ينبغي سلوكه نحو التقدم والإبداع والعطاء، قال بعضهم في “الحي اللا تيني” يدعو إلى هذا المعنى الداعر، (ص.123): (ألا تعتقد أن كثيرين من شبابنا العربي، هنا وفي الوطن، محرومون من استغلال أسمى إمكانياتهم لإن حاجاتهم في الحب والجنس غيرمكفية؟).
إن هذين المقطعين، من هذه الرواية، يدلان دلالة واضحة على مغزاها والهدف من كتابتها، وليس هو ألا نشر الفاحشة في بلاد الإسلام، وحث الكتاب والأدباء على التأليف في ذلك، حتى تصير كالمعروف الذي لا ينكر.
غير أن رأس الشر كله -وليس بعد الكفر من شر- هو إعلان الإلحاد الصريح باللفظ الفصيح. وهو ما يأتي بيانه في العدد القادم إن شاء الله.