الحرية والمسؤولية.. أية توافقات وأية مفارقات؟ -الحلقة الأولى- د. محمد وراضي

يؤكد الواقع التاريخي، والثقافي والحضاري، أن النشاط البشري النظري والتطبيقي مطبوع بطابع النسبية المحكومة بأنواع من الحتميات، التي تحد من الإرادة الخاصة، كما تحد من الإرادة العامة. كانت القدرة منتصبة خلفها أو أمامها، أو كانت غير منتصبة وإنما هي منعدمة.
فالعلوم وتطوراتها تشي بأن وضع الفروض لا يدل على كون مدركاتنا مطلقة. فالأرض عند الأوائل لم تكن كروية الشكل، حتى الفكر الظلامي الصوفي يتحدث عن جبل قاف المحيط بها إحاطة السوار بالمعصم! ولا كانت فكرة سقوط الأجسام مرتبطة بالجاذبية قبل نيوتن. فالثقيل يصل إلى الأرض قبل الخفيف، متى ألقينا بهما من أعلى برج أو من أعلى صومعة! بحيث يكون التقدم العلمي والصناعي نتيجة لأخطاء، ونتيجة لإصلاح هذه الأخطاء. تأكيدا منا لنسبية أفكار وتأملات وتحليلات، من أثبتوها في مؤلفات، وهم يظنون أنهم بلغوا ذروة الحقيقة، لم يدركوا كيف أن الظن مهما يكن أثره على المفكر -وكأنه بالنسبة إليه يقين- لا يمكنه أن يقف وراء تأسيس أي علم من العلوم.
إن النسبية في كل الأحوال تفرضها حتميات فيزيولوجية، وبيولوجية، ومجتمعية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية. بعيدا عن الخوض في المجردات، أو فيما يسمى بما وراء الطبيعة. فصح تعرض الباحثين والمفكرين والعلماء لضغوطها التي تحد حتى من مسار الإبداع ونوعيته.
فالنسر -للتوضيح- أقدر على الرؤية من أي إنسان! وبعض الحيوانات البرية والأليفة أقدر منه على الشم! والجمل يتناول شجيرات مشوكة إفرازاتها بيضاء سيالة كالحليب، غير الجمل منا نحن البشر، لا يمكنه تناولها لشدة مرارتها التي تمجها حاسة ذوقنا المتميزة عن حاسة ذوقه.
يعني بكل بساطة، وبكل وضوح، حضور فعل النسبية السلبي والإيجابي لدى الإنسان وغيره من الكائنات، التي لا يتميز عنها إلا بالنطق أو باللغة. ونسبية الحواس عنده مؤشر على محدودية مدركاته الحسية. والحال أن الحواس هي الواسطة بيننا وبين ما في الخارج من أشياء. إنها التي تنقل بكيفيات متقاربة صورا عن موجودات العالم إلى الذهن. ومن هنا جاء حديث الفلاسفة عن قيمة المعارف الحسية، مقابل المعارف العقلية التجريدية النظرية!
أما الحتمية المجتمعية فلا مخرج منها لمواطنين نشأوا في مجتمع بعينه، وكل مجتمع تسوده ظواهر، وكل ظاهرة لها قدر من الضغط على الأفراد. فإن حاول أحدهم تجاوز ظاهرة بعينها، تعرض لنوع القسر الذي سوف يمارس عليه، فإن لم يتعرض له من طرف أقاربه؛ تعرض له من طرف آخرين هم بجوار بيته، أو بجوار بيت أبويه ساكنون. فما يجري في الأعراس، ظاهرة قد تتنوع من قرية إلى قرية. ومن مدينة إلى مدينة. وكذلك الشأن بخصوص ظاهرة الجنائز. دون الدخول هنا في جواز أو عدم جواز ما يجري أثناءها من وجهة النظر الدينية. وعما إذا كان جانب غير الدين هو الطاغي فيها أو عليها؟ فالناس قبل ظهور الإسلام كانوا يتخلصون من موتاهم حسب العادات الجاري بها العمل.
وهناك ممارسات أخرى يقف المجتمع في وجه من يحاول جعلها من المسموح به، على اعتبار أنه لا يلحق بالآخرين أي ضرر، خاصة عندما يجري الحديث عن الضمير الجمعي الذي هو بمثابة رقيب، يستهدف الحفاظ على الأخلاق والأعراف والتقاليد السائدة الموروثة.
أما الحتمية الاقتصادية فأثرها في سلوكاتنا، لا يمكن جحده، أو إلغاؤه بجرة قلم. فإن كانت إرادة أحدنا -كأبسط مثال- هي السفر من مدينة إلى أخرى داخل المغرب أو خارجه، لكن القدرة المالية تنقصه، فكيف إذن يحول إرادته إلى فعل يتم له تحقيقه؟ والحال أنه حر في السفر وحر في عدمه؟
وإن رغب أحدنا في طبع كتاب من تأليفه، لكنه لا يملك ما يدفعه مقابل طبعه. فضلا عن كون دور النشر كلها رفضت أن تنشره له. مع أنه حر في نشره بالكيفية التي يريد، غير أن الحتمية الاقتصادية حالت دونه وتنفيذ إرادته!
وربما دفع به جدار الموانع المنتصبة أمامه إلى التخلي عما ينوي الإقدام عليه! فإن لم يكن محدود الإرادة كما هو بين، فإنه محدود القدرة بكل تأكيد!
وما قيل عن الحتمية الاقتصادية يقال عن الحتمية الثقافية، هذه التي يتفاوت حضور الدولة فيها كمشجع وكممول من عدمه؟ فهناك علماء مبدعون في مجال الصناعات الحربية بالتحديد، لكن الدولة تفضل استيراد المعدات على السماح لأحد مواطنيها بتطوير خبرته الإبداعية في مجال صنع الأسلحة.
ولندفع بهذا الطرح إلى مجالات علمية وفكرية وأدبية وثقافية أخرى، لمجرد أن ندرك ما تعنيه الحتمية الثقافية! فضلا عن عنصر في المعادلة يقضي بحمل المثقفين على الاشتغال بموضوعات معينة مكرهين! فكان أن تعرضوا لما يشبه الإجبار على عدم الخروج عن خط جرى قبل ذلك رسمه! وهذا الاتجاه للتذكير اعتداء مسلط على المبدعين والمبدعات. فقد تم سجنهم في إطار مغلق من قناعات أشبه ما تكون بالمعتقدات! والكلام في الموضوع قد يطول.
وعندما نصل إلى الحتمية السياسية، فإننا أمام الاقتراب أو الابتعاد عن محور المصالح، بحيث يكون السياسي أداة لإنتاج خطاب يقول نعم! ولإنتاج خطاب يقول لا! وهو في الواقع خطاب تابع، لا خطاب متبوع. فالمتبوع هو النظام المهيمن! وأحزاب أيديولوجيا مؤطرة! ثم إنه في كل الحالات نسبي لا مطلق، ونسبيته هي التي تدفع بالمجتمع في فترة ما إلى تجاوزه، واستقبال خطاب مرحلي آخر يحل محله!
وكافة التحركات الخاضعة لحتميات عدة، هل يأتيها الإنسان بكامل حريته؟ ومتى أتاها هل هو على استعداد لتحمل كافة مسؤولياته بخصوص ما أتاه وبخصوص كل ما سوف يأتيه، إن هو على مستوى نظري، وإن هو على مستوى عملي؟ دون إغفالنا لحتمية ذات أنياب وأظافر، فعلها في الفرائس يذكر بفعل السباع والجوارح في الطرائد! إنها الحتمية القانونية التي تقيد حركة الإنسان داخل أي مجتمع متمدن. هذه الحتمية التي تمخضت عن الإرادة العامة، أو عما يسميه جان جاك روسو بالعقد الاجتماعي. مقابل وضع آخر فيه إصرار الأفراد على الاحتفاظ بحريتهم كما يريدون!
فما الذي نعنيه بالحرية، وتحديدا بحرية الإنسان داخل مجتمع، تعود السيادة فيه إلى القانون؟ بغض النظر عن مضامينه وعن واضعيه؟ وبغض النظر عن تفعيله في إطار من الوضوح والشفافية؟ وبغض النظر عما إذا كان القيمون عليه حريصين على جعله حاميا للقيم التي بفضلها تبوأ من وضع لتسيير شؤونهم مكانتهم اللائقة المحترمة بين أمم المعمور؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *