لا سبيل إلى التبحر والتوسع في العلوم الشرعية إلا عن طريق اللغة العربية. فالعلاقة بينهما علاقة وطيدة لخصها فضيلة الدكتور محمد الروكي في إحدى محاضراته في النقط الآتية:
كون اللغة العربية وعاء لجميع العلوم والمعارف الإسلامية، إذ إنها كتبت بها، ودرست وأجريت مناظرات بها.
الاصطلاحات الشرعية في مختلف العلوم قوامها اللغة العربية.
بالنظر إلى عمق العلوم نجد أن للغة العربية مكانة وحيزا مهما جدا. فعلى سبيل المثال، فعلم أصول الفقه يستمد من أصول الدين والفقه واللغة العربية: فاللغة العربية إذن مصدر أساس لهذا العلم، بل هي ثلث هذا العلم، بل وأهم مباحث هذا العلم لغوية (العموم والخصوص-الأمر والنهي-الإطلاق والتقييد..).
أساس الاجتهاد الفقهي: فحينما يريد العالم أن يصل إلى مرتبة الاجتهاد لا بد له من الانضباط للضوابط والشروط التي وضعها العلماء لذلك، والتي كان أولها العلم باللغة العربية. فالاجتهاد مفتقر تمام الافتقار إلى اللغة العربية.
ارتباط مقاصد الشريعة باللغة العربية ارتباط وثيق؛ إذ لا يمكن التفقه بمقاصد الشريعة إذا لم يكن الإنسان ملما باللغة العربية. فمثلا، من مباحث المقاصد، طرق إثبات المقاصد مبحث لا يمكن أن يقتحم عقبته إلا متضلع من العربية، لاسيما وأن أول طريقه هو النص.
حضور اللغة العربية في الدرس الشرعي كيفما كان.
كون علمائنا، في مختلف المعارف والتخصصات، هم أهل تلك العلوم، وهم – في المقابل – أدباء وشعراء ولغويون.
خلاصة القول أن اللغة العربية ركن أساس بالنسبة إلى جميع العلوم الشرعية؛ بدءا من التفسير، ثم الحديث والفقه وأصوله، وكذا علم المقاصد. وقد أبان عن هذه الأهميةِ أهلُ اللغة أنفسهم. يقول الزمخشري (ت538هـ): “وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلومِ الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع”.
وقد بين علماؤنا حفظهم الله أهمية اللغة العربية للمفسِّر والمحدث، فقال الشاطبي رحمه الله (ت790هـ): “على الناظر في الشريعة، والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً، أمران:
أحدهما: ألا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربياً أو كالعربي في كونه عارفاً باللسان العربي، بالغاً فيه مبلغ العرب. قال الشافعي رحمه الله(ت 204هـ): “فمن جهل هذا من لسانها -وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة- فتكلف القول في علمها، تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبت معرفته، كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمودة والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور؛ إذ نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطإ والصواب فيه” .
ثم قال الشاطبي معقباً: وما قاله حق، فإن القول في القرآن أو السنة بغير علم تكلف، وقد نهينا عن التكلف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا” ؛ لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم رجع إلى فهمه الأعجمي وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة. قال الحسن البصري رحمه الله: “أهلكتهم العجمة يتأولونه على غير تأويله”.
ثانيهما: إذا أشكل عليه شيء فإنه يسأل أهل العربية.
وقال يحيى بن نضلة المديني: سمعت مالكاً بنَ أنس يقول: ”لا أوتى برجل يفسر كتاب الله، غير عالم بلغة العرب، إلا جعلته نكالا”.
وقال مجاهد رحمه الله : ”لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله، إذا لم يكن عالما بلغة العرب”.
وقد بين ابنُ الصلاح، في مقدمته، أهمية اللغة العربية في فهم الحديث قائلا: “فحق على طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شين اللحن والتحريف ومعرتهما. روينا عن شعبة قال: من طلب الحديث ولم يبصر العربية فمثله مثل رجل عليه برنس ليس له رأس، أو كما قال. وعن حماد بن سلمة قال: “مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة لا شعيرة فيها”.
أما فيما يخص أهمية اللغة العربية للفقيه، فقد جَعَل علماءُ أصولِ الفقه من شروط المجتهد أن يكون عالمًا بأسرارِ العربية، وبخاصة علم النحو. قال الإمام الرازي، في كتابه “المحصول”: “إن من شروط المجتهد: معرفة النحو واللغة والتصريف؛ لأن شرعنا عربي، فلا يمكن التوسل إليه إلاّ بفهم كلام العرب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولا بد في هذه العلوم من القدر الذي يتمكن المجتهد به من معرفة الكتاب والسنة”.
ثم إن عدم إتقانها كان سببا في الضلال عن هدي الشريعة. يقول ابن جني في “الخصائص”: “إن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه، واستخف حلمه، ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها” .