يوميات مريض.. الحلقة الأولى حماد القباج

من زار المستشفى ونظر في أحوال نازليه بعين التأمل؛ بدا له وكأن الأصحاء يحيون في غرور مخدوعين ببريق الدنيا؛ وذلك أن ما من مريض إلا وكان هو بدوره يصول ويجول رافلا في أثواب الصحة والعافية، لم يتصور يوما أنه سينزل مريضا في أحد أجنحة ذلك المستشفى، ليعيش أياما أو شهورا حبيس فراش يوقف حركة حياته ويكبل حريته بأغلال علاج قد يحرمه لذة الطعام والسعي لطلب المعاش ومتعة مجالسة الأهل والأصدقاء وملاعبة الأولاد وزيارة الأحباب.
إنها غفلة عجيبة وذهول خطير..
ولذلك كان من رحمة نبينا صلى الله عليه وسلم بأمته أن أرشدهم إلى زيارة المرضى وجعلها من حق المسلم على أخيه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس” [متفق عليه].
وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؛ قال: “أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده..” رواه مسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من عاد مريضا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا” رواه الترمذي وحسنه.
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع”.
قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟
قال: “جناها”. رواه مسلم
فعيادة المريض سبب يحمل المعافى على الاتعاظ وتذكر النعمة وبذل الأسباب لطلب السلامة والعافية، ومن الأسباب: الدعاء وذكر الله والاحتماء به؛ ومنه أن يقول إذا رأى المبتلى: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا”.
ومن هنا كان العلماء والصالحون يخصصون أوقتا لعيادة المرضى وزيارة المشافي؛ كما ذكر البرزالي عن شيخ الإسلام أنه كان يخصص وقتا من يوم الأحد لزيارة (البيمارستان).
أما المريض الذي ضربت عليه جدران المشفى نطاق الحصار، وأحاطته الأدواء بحبال الضعف والانكسار؛ فلن يخرج من ضيق الابتلاء ولن يخفف من وطأة الآلام إلا إذا التزم الوصفة الشرعية.
عنوانها: الارتباط بالله والاغتباط بذكره.
أما أدويتها؛ فهي:
1- المحافظة على الصلاة:
الصلاة صلة بالله، ومن اتصل بالله قوِيَ قلبه وزكت نفسه، فارتفعت معنوياته ولو كان ضعيف الجسم هزيل البدن.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: “أرحنا بها يا بلال”.
وشروط الانتفاع بهذه الوصفة: الصلاة في وقتها، والتطهر لها قدر الإمكان، وصلاتها كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، الطمأنينة والخشوع.
وقد شرحت هذه الشروط في دروس “شرح الدرر البهية للإمام الشوكاني” (متوفرة على شبكة الأنترنت موقع دار القرآن الكريم: www.darcoran.net)).
أما ما يخص إخواني المرضى من أحكام الطهارة والصلاة فسأبينه في أقرب فرصة تسنح لي بإذن الله.
2- ذكر الله
وأفضله بعد الصلاة؛ تلاوة القرآن وسماعه من حسن الصوت به..
وإذا كانت أشغال الحياة والتزاماتها تحرمك من الاستكثار من الفضل الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها؛ لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف” [رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود وقال: حديث حسن صحيح غريب].
فإن المستشفى قد يتيح لك فرصة ذهبية للاغتراف من هذا الخير.
وعجبا لمن يستبدل القرآن بالموسيقى؛ مع أن القرآن بصوت حسن فيه من المعاني النبيلة والفوائد الجليلة واللذة الروحية والإطراب؛ ما ليس في الموسيقى بكل أشكالها.
فلا تكن أخي المريض ممن قال الله فيهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61].
ومن أفضل الذكر؛ الالتزام الأوراد التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (تجد أهمها في كُتَيّب: صحيح الكلم الطيب).
ومن أهمها: أذكار الصباح والمساء، وأذكار أدبار الصلوات؛ فإن لها أثرا بليغا في تقوية النفس وتزكيتها.
ومن أعظم الذكر:
3- الاستغفار:
وتأمل معي أخي المريض في قول الله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
4- التوبة من الذنوب واتقاء المحرمات:
المرض مظنة التوبة واجتناب المحرمات، وقد يتضاعف إثم المريض حال ارتكابه للمعصية؛ كما قال عليه السلام:
“ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر”. [رواه مسلم عن أبي هريرة].
5- مجاهدة النفس للزوم الصبر ثم الارتقاء بها إلى الرضى وقرة العين بالابتلاء:
واجب العبد إذا ابتلي بخير أن يشكر، وإذا ابتلي بشر أن يصبر، قال تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115].
وفضل الصبر عظيم: قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
وهناك مقام أعلى من الصبر ألا وهو الرضا..
وإذا كان الصبر مرّ المذاق كالصبِر، فإن للرضا لذة في القلب وغبطة تغمر النفس؛ قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
قال علقمة: “هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم ويرضى”.
فيهدي الله قلبه، ويسكب فيه طمأنينة وسرورا.
عن أنس مرفوعا: “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط”. [رواه الترمذي وحسنه].
ومما يعينك على تحقيق الصبر والرضا؛ استحضار فضل الابتلاء؛ ويكفيك في ذلك ما رواه ابن أبي الدنيا بإسناد حسن عن أسد بن كرز رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “المريض تحات خطاياه كما يتحات ورق الشجر”.
6- انظر إلى من هو أشد بلاء منك:
قال عليه السلام: “انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم” [رواه مسلم عن أبي هريرة].
عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”. [رواه البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: “إن نبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: “تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين”.
فقال له صاحبه: وما ذاك؟
قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به”.
فلما راحا إلى أيوب، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق.
قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}.
فاستبطأته، فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحا”؟
فقال: فإني أنا هو.
وكان له أندران (أي بيدران، والبيدر خزان كبير): أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق (الفضة) حتى فاض”. [رواه أبو يعلى في مسنده وصححه الألباني].
يتبع إن شاء الله..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *