نقد موقف ابن رشد في تأويله للشريعة

نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد
على ضوء الشرع والعقل والعلم -دراسة نقدية لكشف حقيقة فكر ابن رشد-

والنموذج السادس -من تأويلات ابن رشد- إنه ادعى أن الظاهر من العقائد الوارد في الشريعة قصد (به الشرع حمل الجمهور عليها)، وهذا زعم باطل لا يصح، وتأويل فاسد للشرع واعتداء عليه، لأنه لم يُقدم دليلا شرعيا ولا عقليا على زعمه هذا، ودين الإسلام شاهد -بعقائده وأخلاقه وأحكامه وعلومه- على أنه موجه إلى كل فئات الناس من المسلمين، وليس خاصا بطائفة منهم دون غيرها، والله تعالى عندما تكلم عن العقائد، ووصف نفسه بالأسماء الحسنى والصفات المثلى لم يُخصصها بفئة من المسلمين، وإنما خاطبهم بها كلهم، وخصّ العلماء الربانيين بالذكر والتنويه في آيات كثيرة، لأنهم أعرف الناس بالله وصفاته وأفعاله، كقوله سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) سورة فاطر 28، و(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) سورة محمد 19، و(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) سورة العنكبوت 43.
والسيرة النبوية هي أيضا شاهدة على بطلان زعمه، لأننا إذا تتبعنا سيرة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في الدعوة إلى الله، وتربيته لأصحابه لا نجده فرّق بين ظاهر العقائد وباطنها، ولا خصص بعضها لعامة الناس، وبعضها الآخر لخاصتهم، فهذا الرجل -أي ابن رشد- فتنه التأويل الباطني التحريفي حتى أصبح يُقرر ما يُخالف الشريعة صراحة، بلا دليل صحيح من الشرع ولا من العقل.
وأما النموذج السابع فيتمثل في أن ابن رشد نصّ على أن الشرع مُقسم إلى ظاهر وباطن، فالظاهر (هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان)، وتقسيمه هذا أقامه على أساس الزعم بتعارض ظواهر بعض نصوص الشرع مع بواطنها.
وزعمه هذا سبق أن بينا بطلانه، وهو هنا يُغالط ويُدلس في استخدامه لتلك الألفاظ، فمما لا شك فيه أن اللغة العربية فيها أساليب بيانية وبلاغية كثيرة للتعبير بها عن الحقائق، كالسجع، والجناس، والمجاز، والاستعارة، والكناية، وهي كلها لا تخرج على أنها تعبيرات عن المعاني التي تحملها من دون أن تتناقض مع الشرع في استخدامه لها، وقد صدق الفقيه أبو محمد بن حزم الأندلسي عندما قال: (واعلموا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مسامحة فيه، واتهموا…كل من ادعى للديانة سرا وباطنا، فهي دعاوى و مخارق).
وكلامه هذا صحيح، لأن الشرع وإن اختلفت درجة فهم الناس له عمقا واتساعا، فهذا لا يجعل له ظاهرا وباطنا، ولا باطنا معارضا لظاهر، فالاختلاف في الفهم هو اختلاف تنوّع لا اختلاف تعارض ولا تناقض، لأن الشرع مُحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، و(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء 82، وهذا الذي قررناه يختلف تماما عن التأويل الرشدي بظاهريته وباطنيته التحريفيتين.
والنموذج الثامن -من تأويلات ابن رشد- مفاده أنه عندما نصّ على أن التأويلات الصحيحة -حسب زعمه- يجب إخفاؤها وعدم ذكرها في الكتب الجمهورية، قال: (والتأويل الصحيح هي الأمانة التي حُمّلها الإنسان، فحملها وأشفق منها جميع الموجودات، أعني المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ) سورة الأحزاب 72.
وزعمه هذا لا يصح، لأنه لا يقصد به التأويل الصحيح بمعناه الشرعي، وإنما يقصد به تأويله الباطني التحريفي، الذي أقامه على حكاية تعارض النصوص، وإخفاء التأويل الباطني، وهذا أمر سبق أن بينا بطلانه، الأمر الذي يعني أنه لا يمكن لابن رشد -بهذا التأويل- أن يفهم الشرع فهما صحيحا، ولا أن يسمي تأويله تأويلا صحيحا.
وتفسيره لآية الأمانة بأنه التأويل الصحيح، هو تفسير لا يصح، وإنما هو التفسير الرشدي، وهو تفسير باطل، لأنه لو أكمل الآية لتبين معناها المخالف لما ذهب إليه، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) سورة الأحزاب 72-73 فواضح من هاتين الآيتين أن الأمانة المقصودة هي مسؤولية القيام بالطاعة التي تقوم عليها العبودية التامة لله تعالى، وقد قال كثير من السلف أن تلك الأمانة هي القيام بالفرائض والحدود ومختلف الطاعات، وحاصل أمرها أنها (التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه: إن قام بذلك أُثيب وإن تركها عُوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه)، ولو كان التأويل الرشدي على الطريقة الشرعية الصحيحة، لوجدنا له وجها صحيحا في تفسيره لآية الأمانة، وهو أن الإنسان فهم فهما صحيحا المهمة التي خُلق من أجلها وكُلّف بها، فكانت الأمانة هو هذا الفهم الصحيح لها، وليست الأمانة هي التأويل التحريفي الرشدي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *