عندما تغيب الإستراتجيات التي تتعلق بمصلحة الأمة وعندما ترتبط هذه الإستراتيجية بالمصلحة الضيقة لأي نظام وهي مجرد بقائه فإنه ما يلبث أن تضيق الخيارات وتتحول العلاقات الدولية من علاقات ندية إلى علاقات التابع والمتبوع، فالتابع هنا لا يملك من أمره شيئا أمام هجمات الخصم السياسية والإستراتيجية والتي هي أخطر بكثير من أي حرب عسكرية. و في تلك اللحظة تنهال الخسائر على كافة الأصعدة وتكون الهزيمة والتسليم بالأمر الواقع.
وتلك هي الحالة العربية وموقفها إزاء ما يحدث في جميع المناطق الساخنة في دارفور ولبنان والعراق وفلسطين..
وعند رصد المواقف العربية من عملية السلام مع إسرائيل فإنه يمكن تقسيمها إلى موقفين:
موقف السلطة الفلسطينية وموقف الدول العربية المؤثرة وهي السعودية ومصر والأردن.
بالنسبة للموقف الفلسطيني: فإنه منذ استيلاء فتح في نهاية الستينات على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في ظروف معروفة ومع نهاية الثمانينات تبلور هيكل المنظمة إلى نمطين أساسين:
الأول: الجيل القديم في منظمة التحرير وهو يضم قيادات بدأت حياتها في النضال والكفاح المسلح لتحرير فلسطين وبالرغم من أن أغلب هذه القيادات خرجت من محضن جماعة الإخوان المسلمين ولكن نتيجة للقمع الذي تعرضت له الجماعة في أواخر الخمسينيات والستينيات ابتعد هؤلاء عن الفكرة الإسلامية وانخرطوا في التيار السائد في ذلك الوقت هذه المنظومة القيادية تمحورت حول فريقين: فريق يأبى الاعتراف بالهزيمة ويصر على استمرار المقاومة وعلى رأس هذا الفريق أبو جهاد خليل الوزير وأبو إياد صلاح خلف؛ ولذلك قامت إسرائيل بتصفية هذا الفريق تباعاً.
أما الفريق الآخر وعلى رأسه ياسر عرفات فكان يرى مسايرة الواقع واتخاذ الطريق السياسي بديلاً للمقاومة المسلحة، وعندما قامت الانتفاضة الأولى تركزت جهوده في احتواء الانتفاضة وقيادتها وعدم خروجها عن قيادة منظمة التحرير كخطوة تمهيدية نحو اتخاذها ورقة له في عودة المنظمة مرة أخرى للساحة السياسية وخاصة بعد بروز التوجه الإسلامي للشعب الفلسطيني والمتمثل في انبعاث حماس والمقاومة الإسلامية.
والنمط الثاني من أولئك الذين يكونون بنيان السلطة الفلسطينية هم العملاء والمنتفعون الذين كانوا دائماً ملتصقين بقيادات المنظمة لأغراض عديدة غير هدف المقاومة وغايات الكفاح، فكان منهم العملاء الملتصقون بالقيادة لتتبع أخبارها ونقل تحركات أفراد المقاومة وخططهم إما إلى الموساد مباشرة أو إلى الـ “CIA” أو إلى أجهزة المخابرات العربية؛ واعترف بذلك بعض المسئولين الأمنيين الإسرائيليين باختراق المنظمات الفلسطينية، وأكدوا أنهم مارسوا ما يسمى بـ (الإغراق الأمني)، أي إرسال جواسيس بأعداد كبيرة بحيث إن الأمن المضاد صار لا يصدّق أن من المعقول أن يكون الاختراق بهذا الحجم، ثم بالتدريج يصبح لديه نوع من الارتخاء الأمني.
ولقد اندهش كثير من أفراد الشعب الفلسطيني خاصة في الثمانينيات وهم يرون المقاومين يقعون في قبضة قوات الاحتلال الإسرائيلي وهم في الطريق لتنفيذ عملياتهم، وينجلي الغبار عن العمالة التي وصلت إلى مستويات كبيرة داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية التي تشي لأجهزة الأمن الإسرائيلي بتحركات هؤلاء. ومن المثير أن يسر أحد زعماء المنطقة إلى زعيم آخر عند اجتماعه به ويبدي تعجبه عندما سمع باسم أحد المرشحين لخلافة عرفات فيقول بالحرف الواحد: “ده جاسوس”، وهذه الفئة هي التي كانت أكثر فئات منظمة التحرير اندفاعاً نحو “أوسلو” والحل السلمي المزعوم.
وللأسف فهذا النمط هو الذي يسيطر الآن على مقاليد السلطة والذي أصبح أكثر ميلا للانفصال عن المواقف العربية خاصة بعد ما جرى في غزة وتسلم حماس زمام الأمور هناك وطرد عناصر فتح من المقار الأمنية، ويظن عباس ومجموعته أن هذه فرصة مناسبة في الانفصال عن ما يعتبرهم الغرب وإسرائيل متطرفين، وإنه بذلك سوف ينتزع من الحكومة الإسرائيلية ومن الإدارة الأمريكية ما عجز عنه عرفات.
أما الأطراف العربية ففي الفترة الأخيرة بدأ يتبلور في الأفق محور عربي جديد يتكون من السعودية ومصر والأردن وبعض دول الخليج ويُوصف هذا التجمع في وسائل الإعلام بتحالف الدول العربية المُعتدلة. وتلعب السعودية الدور الأكبر والفاعل في هذا التجمع بإمكانياتها الاقتصادية والسياسية الضخمة مع تراجع الدور المصري الذي يئن من مشاكله الداخلية الاقتصادية والسياسية.
وتثور إشكالية كبرى في هذا المحور فيرى بعض المحللين أن الأدوار العربية هذه جزء من الإستراتجية الأمريكية في المنطقة حيث أن هذه الدول التي تسمى معتدلة لا تملك قرارها السياسي وأنها تستند في بقاءها على الولايات المتحدة أو على الأقل خاضعة للنفوذ الأمريكي وأن تحركها الأخير جزء من هذه الإستراتيجية لتهدئة المنطقة ومشاكلها تمهيدا للضربة الأمريكية على إيران.
تقوم هذه الإستراتيجية العربية على عدة مسارات:
المسار الأول: محاولة التدخل في مشاكل المنطقة وملفاتها الشائكة ليس بغرض حلها أو فك طلاسمها، فهذه الطلاسم مر عليها عقود وهي تأبى على الحل في ظل موازين القوى الحالية ولكن بغرض تهدءتها وتقليل درجة الصراع فيها إلى أقل حد ممكن وذلك ما حدث من التدخل السعودي في لبنان وفلسطين والسودان، وبدرجات أقل في العراق وأزمة البرنامج النووي الإيراني وتجيء مؤتمرات دول الجوار في هذا المسار ومنها مؤتمر شرم الشيخ.
المسار الثاني: عدم التبنِّي الكامل للنظرة الأمريكية إلى إيران على أنها مَصدر التهديد الأكبر في المنطقة فالولايات المتحدة قد تغادر المنطقة بأي صورة من الصور أو تنجح المساومات بينها وبين إيران وفي هذه الحالة تهمل الأطراف العربية مرة أخرى وتترك بلا فاعلية بينما تتآكل استراتيجيا وأمنيا.
المسار الثالث: مساومة أمريكا على التدخل لدى إسرائيل لإيجاد حل معقول للقضية الفلسطينية.
ومن هنا يمكن فهم المواقف العربية الأخيرة من مؤتمر “أنابوليس”، فوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط صرح للتلفزيون المصري أن أي حديث في المؤتمر خارج تحديد الإطار العام له تتعلق بخطوات الاتفاق على الحل النهائي لعدد من القضايا الرئيسة كعودة اللاجئين والقدس الشرقية والحدود.. والانشغال بقضايا تم الاتفاق عليها في مؤتمرات عديدة سابقة أمر لا يجوز.
بينما كان رد الفعل السعودي قويا فقد أعلن وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير سعود الفيصل أن بلاده لا تريد المشاركة في مؤتمر لا يؤمن حقوق الشعب الفلسطيني ويقتصر فقط على تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل بأي ثمن (1).
وأعلن عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية أن العرب قدموا مبادرتهم التي على أساسها من المفترض أن يعقد المؤتمر إلا أن هذا المؤتمر لم يجر له الإعداد الجيد لضمان الحدود الدنيا من النجاح المأمول.
فالمواقف العربية في الأصل ترتكز على ضمان الحد الأدنى من النجاح الذي هو في نظرها حل قضايا الوضع النهائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لكن بعد ذلك شاركت بحكم أن الإجماع العربي لحضورها هو ما ألزمها كما صرح وزير خارجيتها.