اتخذ أبو الوليد بن رشد الحفيد مواقف متميزة من مواضيع تتعلق بالسنة النبوية المطهرة، ومذهب أهل الحديث، والهداية والضلال، ومواضيع أخرى جعلته -أي تلك المواقف- محل انتقاد واعتراض من قبلنا، نذكرها فيما يأتي تباعا، إن شاء الله تعالى.
أولا: نقد موقف ابن رشد من السنة النبوية:
نخصص هذا المبحث لنقد موقف ابن رشد من السنة النبوية، من حيث مكانتها عنده كمصدر أساسي للتشريع بعد القرآن الكريم من جهة؛ ومدى استخدامه لها، وكيفية تعامله معها من جهة أخرى. فبخصوص مكانة السنة النبوية عنده، فيُلاحظ عليه قلة اهتمامه بها، وإغفاله لها في مواضع يستدعي المقام ذكرها والاحتكام إليها، والالتزام بها. والدليل على ذلك أنني لم أعثر له -في كتبه الكلامية والفلسفية- على ما يدل على اهتمامه بالسنة والإعلان من شأنها، والدعوة إلى الاحتكام إليها، وإنما عثرت على ما يُوحي إلى عكس ذلك؛ أذكر منه نصين من أقواله، أولهما إنه عندما ذكر الطرق التي استخدمها الشرع في تعليم مختلف فئات الناس قال: إنها هي الطرق التي (تثبت في الكتاب فقط، فإن الكتاب العزيز إذا تُؤمل وُجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس).
وقوله هذا ناقص من جانبين، الأول إنه نصّ على الكتاب وأغفل السنة النبوية بطريقة تُوحي وكأنه يُخرج السنة من أن تكون مصدرا يجب الاحتكام إليه، وذلك عندما قال: (الكتاب فقط)!. والجانب الثاني أنه أغفل طرق الخطاب والإقناع الكثيرة التي استخدمها رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في دعوة الناس إلى دين الإسلام، إنه استخدم طرقا كثيرة جدا، في رده على شبهات المشركين واليهود والنصارى، ومجادلته لهم بما يُفحمهم ويُبطل مزاعمهم، وأمره بأن يُجادلهم بالتي هي أحسن. كما أنه استخدم طرقا أخرى في تربيته للمسلمين والرد على تساؤلاتهم. وهذه الطرق مبثوثة في كتب السنة والسيرة والمغازي والتاريخ، كان عليه أن يرجع إليها للاستفادة منها.
وأما النص الثاني فمفاده أن ابن رشد عندما استنكر ما وصل إليه المسلمون –بعد الصحابة- من اختلاف وتفرّق وكراهية بسبب استخدامهم للتأويل، قال: (فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز، فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كُلفنا اعتقاده…).
وقوله هذا ناقص هو أيضا، لأن الشرع كلفنا وأمرنا صراحة بالرجوع إلى الكتاب والسنة معا، وليس إلى الكتاب وحده، ولا إلى السنة وحدها، التي هي أيضا مليئة بطرق الدعوة والاستدلال، وإلا ما أمرنا الشرع بإتباعها، وهذا أمر معروف من دين الإسلام بالضرورة، ولا يصح أن يغيب عن مسلم.
وأما بالنسبة لمدى استخدامه للسنة النبوية، فهو بلا شك قد استخدم طائفة منها، في كتبه الكلامية والفلسفية، منها أنه استخدم 5 أحاديث في كتابه فل المقال، واستخدم 14 حديثا في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة. لكنها قليلة، كان في مقدوره استخدام أكثر من ذلك، خاصة وأنه تناول مواضيع متنوعة لها علاقة وطيدة بأحاديث كثيرة، المفروض أنها لا تغيب عنه بحكم أنه فقيه من كبار قضاة المالكية.
وأما الأحاديث التي غابت عنه أو أغفلها، فمنها أربعة أحاديث، أولها حديث صحيح يقول فيه رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء)، وهذا حديث عظيم له علاقة مباشرة بموضوع خلق العالم، والقضاء والقدر، لكن ابن رشد لم يذكره عندما تطرق إلى موضوع خلق العالم في كتبه الكلامية والفلسفية التي أطلعتُ عليها، كالفصل، والكشف، والتهافت، وتلخيص ما بعد الطبيعة، فكان من المفروض عليه أن يذكره ويعتمد عليه، مع أنه يُخالفه في قوله بأزلية العالم، وربما هذا هو السبب الذي جعله يغفله.
وأما الحديث الثاني فهو حديث صحيح، يقول فيه رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده غلبت -أو قال سبقت- رحمتي غضبي فهو عنده فوق العرش). وهذا حديث هام جدا، يتعلق بخلق العالم، والصفات الإلهية، والقضاء والقدر، لكن ابن رشد لم يذكره في المواضع التي تناول فيها تلك المواضيع في كتبه الكلامية والفلسفية التي تمكّنت من الاطلاع عليها.