ثانيا: نقد موقفه من مذهب أهل الحديث:
وأما المظهر الثاني من إغفاله لأهل الحديث، فيتمثل في أنه عندما تعرّض لصفة الجسمية ذكر أن الذين صرّحوا بنفيها فرقتان، هما: المعتزلة والأشعرية، ولم يذكر أهل الحديث، بأنهم هم أيضا نفوا الجسمية ولم يصفوا الله تعالى بها، وهم لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله-عليه الصلاة والسلام-، فكان عليه أن يستثنيهم وأن لا يغفلهم.
والمظهر الثالث من إغفاله لهم فيتمثل في أنه عندما تطرق إلى موضوع السببية والحكمة والطبائع في العالم، وإنكار الأشاعرة لذلك ورده عليهم، أغفل موقف أهل الحديث من هذا الموضوع وكأنه غير موجود، مع أهميته كطرف يُعبر عن الجناح الأول في الطائفة السنية، فهم خلاف الأشاعرة في ذلك، فيُثبتون السببية والحكمة في العالم بطريقة شرعية وعقلية معا، فما كان لابن رشد أن يغفل موقفهم!
وآخرها -أي المظهر الرابع- هو إغفاله لهم في موضوع القضاء والقدر، فعندما تطرق إلى موضوع الجبر والاختيار، وعلاقته بالقضاء والقدر ذكر موقف المعتزلة والجبرية والأشعرية، ولم يُشر إلى موقف أهل الحديث من هذا الموضوع، مع أن لهم كلاما جيدا فيه، موافقا للشرع والعقل معا، وفيه رد قوي على الطوائف المخالفة لهم.
وأما اتهامه لهم، فيتمثل في أنه عندما تكلم عن صفة الجسمية، ذكر أن الحنابلة وكثيرا ممن اتبعهم وصفوا الله بالجسمية، وقالوا: (إنه جسم لا يُشبه سائر الأجسام)، وذكر أن الحنابلة تحمل آية الاستواء وحديث النزول على ظاهرهما من دون تأويل.
وأقول: أولا واضح من كلامه أنه يُريد أهل الحديث كلهم، بحكم أن الحنابلة -بعد انقسام السنيين على أنفسهم- هم قطب أهل الحديث، وأنه قال: (وكثير ممن تبعهم). وهذا اتهام لا يصح في حقهم، لأنهم لم يقولوا بصفة الجسمية، وهم لا يصفون الله تعالى إلا بما وصف بع نفسه، وأو وصفه به رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وأما الحنابلة فليس فيهم من أطلق لفظ الجسم على الله تعالى، لكن نُفاة الصفات كابن رشد وأصحابه يسمون كل من أثبتها مجسما.
وثانيا إن اتهامه لأهل الحديث بأنهم وصفوا الله تعالى بالتجسيم، يدل على أن مفهومه للتجسيم ليس مفهوما صحيحا شرعا ولا عقلا، فهو عنده وصف الله بالصفات التي وصفه السرع بها. وهذا مفهوم غير صحيح تماما، لأن التجسيم والتشبيه هو أن نقول: إن الله يُشبه مخلوقاته جسما وصفة.
وأما لماذا تعريفة للجسم غير صحيح شرعا وعقلا؟، فهو لأن الشرع وصف الله تعالى بصفات كثيرة جدا، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، وبما أنه وصف نفسه بها، هي بالضرورة صفات حقيقية لا مجازية، تليق به سبحانه وتعالى، وهي صفات كمال وتنزيه لا نقص فيها مطلقا. علما بأنه لا أحد يستطيع وصف الله تعالى بطريقة صحيحة كاملة لا نقص فيها إلا الله تعالى أو رسوله -عليه الصلاة والسلام-. وأما عقلا فإن اتصاف الله تعالى بصفات الكمال التي تليق به، هي من ضروريات العقل الصريح، لأنه لا موجود دون صفات تليق به، ولأن العالم يشهد لخالقه بكل صفات الكمال بالضرورة.
وأما ما قاله عن الحنابلة بأنهم يحملون أية الاستواء وحديث النزول على ظاهرهما، فهم كغيرهم من السلف وأهل الحديث يُثبتون الصفات بلا تعطيل، ولا تجسيم، ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تكييف، ويرفضون تأويلها مُطلقا، لكن قوله بأنهم يحملونه على ظاهره يحتمل معنيين، أحدهما صحيح، والثاني غير صحيح بالنسبة إلى الحنابلة، فإذا قُصد به أنهم يُثبتون النزول والاستواء ويجعلونه كاستواء ونزول المخلوقين، فهذا لا يقوله الحنابلة ولا أهل الحديث، وهذا هو المعنى الباطل الذي يحتمله قوله.
وأما إذا قُصِد به أنه يُثبتون صفتي الاستواء والنزول على الحقيقة لا المجاز، من دون تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، ولا تشبيه ولا تجسيم، وإنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فهذا يقوله الحنابلة وأهل الحديث، وهو المعنى الصحيح الذي يحتمله قول ابن رشد في وصفه للحنابلة بأنهم يأخذون بظاهر النص. فكان عليه أن يُحدد المعنى الذي يُريده بدقة، لكي لا يلتبس كلامه على القارئ. علما بأن الظاهر الذي أخذ به الحنابلة وأهل الحديث هو الظاهر الصحيح، وليس هو ظاهر المشبهة والمجسمة، ولا هو ظاهر المؤوّلة والمُعطلة.