سلسلة مرافعات في الدعوة السلفية المرافعة الثانية: (مكانة العقل في الفكر السلفي)! الجزء الأخير: أخيرا…!! ذ.طارق الحمودي

 

هل يستقل العقل وحده بإدراك المصالح والمفاسد؟
حينما يجعل السلفيون الوحي حاكما -ولست أقصد التفسيرات الخطأ لبعض العلماء للوحي- فإنهم يراعون في ذلك اعتقادهم بأن العقل وحده لا يستطيع معرفة مصالحه على جهة التفصيل دائما، بل في كثير من الأحيان، والوحي هو صمام أمان العقل من الانحراف والتيه.
والرمال المتحركة في الدنيا كثيرة فتحتاج عند قصد السفر في صحرائها إلى هاد يهديك..! وليس من هاد خريت إلا الوحي.. والعقل تلميذه!
يقول ابن القيم في الصواعق المرسلة في المقدمة: (من المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين؛ وإليه داعين؛ ولمن أجابهم مبشرين؛ ومن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله إذ على هذه المعرفة تنبني مطالب الرسالة جميعها).
وقال ابن تيمية في الفتاوى (19/100): (ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد..).
ومثله قول الشاطبي في الموافقات (2/37) ردا على من زعم استقلال العقل بإدراك المصالح الدنيوية بالتفصيل اعتمادا فقط على التجارب والعادات والظنون المعتبرات: (فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدارك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه).
وبين ابن القيم رحمه الله ذلك بحجة عقلية لطيفة فقال في الصواعق (ص:75-76): (إن عقل رسول الله أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجح بها كلها، وقد أخبر سبحانه أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان، كما لم يكن يدري الكتاب، فقال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا”، وقال تعالى: “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى”.
وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر الشورى.. فإذا كان أعقل خلق الله على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي كما قال تعالى: “قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي”.
وقال السفاريني الحنبلي السلفي في لوامع الأنوار البهية (1/105): (ومما يوضح ذلك أن العقول لو كانت مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص، قال تعالى: “وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً”.
فالله أكبر.. على حلاوة الحجة.. وطلاوة البرهان!.. وعقل السلفيين!
ومع هذا فللعقل عند السلفيين مكانة مميزة.. خصوصا إن كان نابتا في الوحي.. فبه استطاعوا سبر أغوار النصوص القرآنية والنبوية، فاستخرجوا منهما حلية للعقل والقلب؛ وطعاما طريا.
وبه استنبطوا مقاصد الشريعة الإسلامية العظيمة..
ومنهم ابن تيمية وابن القيم ..وانظر كتاب (مقاصد الشريعة عند ابن تيمية) و(أسرار الشريعة من إعلام الموقعين لابن القيم).
هذه قيمة المقاصد الشرعية في الفكر العقلاني السلفي؛ بخلاف العلمانيين الذين صار بعضهم يتغنى بها زاعما احتكارها؛ والحقيقة أنها مقاصد العلمانيين من الشريعة؛ وليست مقاصد الشريعة من المكلفين؛ إنه الهوى..أخي يصنع الأعاجيب!
وبهذا العقل السلفي وضع الإمام الشافعي كتاب الرسالة في أصول الفقه والاستباط، هذا هو العقل السلفي المجدد الحداثي المستنير، وفيه بين حدود ومعالم القياس الفقهي؛ وبين فيه مقام العقل في التشريع.. والحياة!
وبه احتج السلفيون على إثبات وجود الله بأساليب رائعة وجميلة..
يقول جمال الدين القاسمي السلفي في (دلائل التوحيد/ص:10): (علم إقامة الحجج والبراهين لتأييد مباني أصول الدين ورد شبه الملحدين علم رفيع مناره، عظيم مقداره، تجب العناية به على العلماء الراسخين، ودراسته على أذكياء النبهاء).
وبه يستعينون في أمور معاشهم، وقد ذكر العلامة عبد الرحمن المعلمي السلفي في القائد إلى تصحيح العقائد أنه: (لا مانع من الاستناد إلى العقل والنظر العميق في ما ليس من الدين ولا يدفعه الدين بل لا ندفع أن يكون فيه ما يوصل في كثير من ذلك إلى اليقين، فإن الشرع لم يتكفل ببيان ما ليس من الدين!).
يقصد ما كان من أمور الدنيا كطرق وتقنيات الزراعة والطب والفلاحة وعلم النجوم ومثيلاتها.
واستعملوا منطقه في إحقاق الحق وإبطال الباطل بأقيسة صحيحة واستدلالات مباشرة، بل وناقشوا مناطقة اليونان والفرس كما يفعلون اليوم في حوارهم الفكري التاريخي مع العقلية الليبيرالية المتحررة من الوحي.
وها هو ابن تيمية رحمه الله يرد على المناطقة في (الرد على المنطقيين) و(نقض المنطق) ويسفه كثيرا من نظرياتهم ويصوب اعوجاجها..
استطاع أن يفعل ذلك لأنه درسه، وهذه عبقرية العقل الفطري السلفي.. واليوم لا زال كثير من السلفيين يدرسونه. وفي ذلك يقول العلامة الشوكاني -الذي يعتبره كثير من المفكرين أحد أعلام الفكر السلفي في اليمن- في علم المنطق في (أدب الطلب ومنتهى الأرب):
(فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه، وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد، من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في الأصول والبيان والنحو).
وبهذا العقل السلفي استدل ابن تيمية على كروية الأرض…!
كيف لا يفعلون وهم كما قال أبو سليمان الخطابي: (بإرشاد الوحي وجهوا عقولهم الوافرة وأفهامهم الثاقبة نحو المسلك السليم..).
العقل عند السلفيين وسيلة مادية للتعرف على الكون بتفاصيله وأجزائه.. بجغرافيته وتاريخه.. بحقيقته وماهيته.. بمكوناته وعناصره.. بقوانينه وثوابته..
العقل عندهم فطري في الإنسان، استعمله قديما لجلب المنافع ودفع المضار.. وأما ما كان من تخصص الوحي فالصحيح تسليم الغريزة الفطرية للوحي الإلاهي، فالوحي للعقل كالنور للعين، فلا العين عطلوا، ولا للوحي استنكروا…! العقل عندهم وسيلة، والعلم غايته. وشرف الوسيلة بشرف غايتها!
العقل عندهم آله ووسيلة لاتخاذ القرارات وتمحيص الأدلة وتوجيه الاستدلال، علموا حدود العقل فلم يتجاوزوها، والعقلانيون جهلوها.. فكلفوه ما لا يطيقه!
طريقتهم في ذلك قراءة النقل بالعقل، وحكم العقل بالنقل، فالعقل ملكة إنسانية، وهو كغيره من الملكات نسبية الإدراك، وليس طرفا في مقابل الشرع، بل هو معلم من معالم الإسلام كما قال بعضهم، وكان من المفروض أن يكون هذا اعتقاد كل المسلمين، لكن للأسف!!
ولهم في كل هذا -باصطلاح الأكاديميين- عقل معياري.. الأصل فيه سعة التفكير؛ مسيجا بسياج الوحي، خلافا للعقل المعياري الكنسي أو المعياري المشخصن.. حيث يُختار عقل فلان أو علان ويجعل أنموذجا أو معيارا يتحاكم إليه..
وقد حصل أو فعل بعض الناس بعضا من ذلك.. فاختار بعضهم ابن رشد كما فعل جمع من المستغربين.. وبعضهم القاضي عبد الجبار المعتزلي.. وبعضهم العقل الذي حدد معالمه الحارث المحاسبي، كحال الأستاذ حسين القوتلي في مقدمة كتاب (العقل وفهم القرآن) للمحاسبي!! وهذه في الحقيقة مصادرة لحق العاقل في التفكير، ومصادرة لحق الشرع في التقنين!
والكلام في هذا يطول كثيرا..
وحسبي بما كتبته والله المستعان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *