قساوسة البيت الأبيض أو سياسيون في ثياب قساوسة

نتحدث في هذه الحلقة عن الدور الخطير الذي يلعبه مجموعة من القساوسة الأمريكيين الذين يعتبرون من رواد الحركة الأصولية المسيحية في الوقت الراهن، قساوسة كان لهم الدور الكبير ولا يزال، في توجيه صناع القرار الأمريكي نحو مواقف عنصرية متطرفة ضد العرب والمسلمين، هذا الأمر يقودنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة مثل:
ما هي حدود الدين والسياسية في المجتمع الأمريكي؟
وإلى أي حد يمكننا أن نتحدث عن عدم تدخل رجال الدين الكنسي في صناعة القرار السياسي داخل النظام السياسي الأمريكي؟
هل التطرف سمة ينعت بها فقط علماء المسلمين ظلما وزورا؟
أم أن التطرف هو السمة الغالبة على رجال الدين والقساوسة النصارى الذين أصبح لهم نفوذ كبير في دواليب الحكم والسياسة في البلدان الغربية، بعد ما ظن الكثير من الناس أن العلمانية المتبناة من طرف تلك الأنظمة قد أنهت نفوذ رجال الكنيسة إلى غير رجعة؟
من خلال السطور التالية سنقف مع أبرز قساوسة الحركة الأصولية المسيحية وأكثرهم نفوذا داخل المجتمع الأمريكي، وأكبرهم تأثيرا على رجال الحكم والسياسة الذين تعاقبوا على حكم البيت الأبيض منذ ما يزيد عن نصف قرن، سنتحدث عن كل من القس “بات روبرتسون”، والقس “جيري فولويل”، إنهم من قساوسة البيت الأبيض أو سياسيون في ثياب قساوسة.

أولا: القس “بات روبرتسون” وشبكة الإذاعة المسيحية
يعتبر القس “بات غوردون روبرتسون”، أحد الأوائل من رجال الكنيسة الذين تنبهوا إلى أهمية تأثير الكنيسة المرئية العام وقوة هذا التأثير، فقد قام منذ عام 1961 بشراء محطة تلفزة في مدينة “بورتسموث” في فيرجينيا، وأصبحت الآن شبكة واسعة من المحطات تغطي الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما يتعدى 60 دولة أجنبية، وتستخدم أقمارا صناعية في البث الإذاعي والتلفزيوني، وهي تجني من وراء ذلك أرباحا خيالية، وتعود أصول هذا القس إلى أسرة “هاريسون” الأمريكية، وكان أحد أفرادها ممن وقَّع على إعلان الاستقلال الأمريكي، وكان والده عضوا في مجلس الشيوخ لمدة 34 عاما، أما في عام 1988 فإن “روبرتسون” أعلن نفسه أحد المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في انتخابات الرئاسة، وبذلك يكون ثاني قس في التاريخ الأمريكي يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية بعد القس “جيسي جاكسون” في عام 1984. ويقف “روبرتسون” على رأس مؤسسة منظمة، متشعبة الأغراض والوسائل، ولها جذور شعبية وتأثير واسع. وكان “روبرتسون” يعتقد أثناء حملته الانتخابية أنه الأكثر جدارة لمواصلة برنامج الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” بهد انتهاء ولايته في عام 1988، كما كان يعتبره الحزب الديمقراطي أكثر قيادات اليمين تطرفا في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر أجهزة القس “روبرتسون”، وبخاصة شبكته الإعلامية المسماة “شبكة الإذاعة المسيحية” ( Christian Broadcasting Network ) واختصارها CBN، من بين الشبكات الأكثر حداثة وتجهيزا في عالم التلفزة والفضائيات، كما أنه الأكثر حذقا ونشاطا في توصيل رسالته في عالم الكنيسة المرئية كما قال “ويلسي كرانبرغ” في كتابه “اليمين الإنجيلي وإسرائيل”، وتقف هذه الشبكة الإذاعية المسيحية وبرامجها، على رأس قائمة أهم الشبكات المسيحية المرئية والمسموعة، وأكثرها اجتذابا للمشاهدين.
وتملك هذه الشبكة المسيحية العديد من محطات التلفزة والشبكات السلكية، وبرنامجا استعراضيا يعرض عدة مرات يوميا يسمى ” ناد السبعمائة ” ( 700 Club )، نسبة على 700 مساهم مع روبتسون. وهو يبث في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم دول ( العالم الحر ). وهو برنامج من تسعين دقيقة يصل إلى أكثر من 16 مليون عائلة، أي أكثر من 19 بالمائة من الأمريكيين. كما تبث هذه الشبكة برنامجا إخباريا ليليا مدته نصف ساعة على محطاتها التلفزيونية الرئيسية في بروتسموث ودلاس وبوسطن.
وتملك مؤسسة “روبرتسون” أيضا جامعة معتمدة منذ عام 1977 هي جامعة “سي.بي.إن”. (CBN University)، وهي تمنح درجة الماجستير إضافة إلى الشهادات الجامعية الأخرى، وفيها كليات للإعلام والتربية وإدارة الأعمال والقانون والدراسات التوراتية، كما تُصدِر نشرة إخبارية شهرية وتسمى “مواقف بات روبرتسون”، وقد اعتاد أن يقول فيها إن “إسرائيل هي أمة الله المفضلة” (God’s Favoured Nation)، وأن يدعوا إلى الدعم الأمريكي لإسرائيل، ويؤيد احتلالها الأراضي العربية، ويقف ضد إقامة دولة للفلسطينيين.
ولعل أبرز نشاطات القس “بات روبرتسون” وأكثر منابره تأثيرا وجماهيرية برنامج الكنيسة المرئية المسمى (السبعمائة ناد) (700 Club) ويذاع عدة مرات يوميا، ويجذب هذا البرنامج ما يفوق 4 ملايين و400 ألف شخص يوميا، وبخاصة في قطاع النساء، فضلا عن المشاهدين في سن الشباب.
يقول “روبرتسون” عن برامجه ونشراته الإخبارية، أنها تصل إلى عدد من المشاهدين والقراء يفوق أعداد الذي تصلهم مجلات “التايم” و”نيوزويك” وصحف “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” و”لوس أنجلس تايمز” مجتمعة.
ولا يوجد في عقل “بات روبرتسون” سوى الأيام الأخيرة من هذا الزمان، وغزو العرب لإسرائيل، واللامسيحية، وتزايد الزلازل والبراكين، والمجيء الثاني للمسيح، وتتمحور الإجابة عن هذه القضايا عنده في أن إعادة مولد إسرائيل هي الإشارة الوحيدة إلى أن العد التنازلي لنهاية الكون قد بدأ، كما أنه مع مولد إسرائيل، فإن بقية النبوءات أخذت تتحقق بسرعة.
وتبدو برامج القس “بات روبرتسون” وخاصة برنامجه (السبعمائة ناد) باستمرار معاديا للعرب والمسلمين، وهو يعتبرهم (أعداء الله) “ويعتبر أنه لا مجال للعدل مع الفلسطينيين طالما أن رغبة الله هي في تأسيس إسرائيل ، وفي تعيين حدودها”، ولا مجال لديه في برنامجه لأي حوار مع المسيحيين العرب أنفسهم، لكنه يفتح برنامجه لضيوف من إسرائيل، ومن الجماعات اليهودية الأمريكية.
كما يحتفل في برنامجه بأعياد اليهود باستمرار، وقرر “روبرتسون” عند بداية تصميمه للعمل لصالح إسرائيل، قائلا: ” لقد أقسمت نذرا لله، بأنه رغم المعارضة لإسرائيل من حولي، فإننا سنقف بجانب إسرائيل مهما يكن..”، وقد كان ذلك نقطة تحول لعموم رعوية مؤسسة الشبكة الإذاعية المسيحية (من نص رسالة “بات روبرتسون” إلى أصدقاء شبكة الإذاعة المسيحية).

ثانيا: “بات روبرتسون”، صهيوني أكثر من الصهانية
في أثناء غزو إسرائيل للبنان في صيف عام 1982م، طلب “روبرتسون” في برنامجه “السبعمائة ناد” إلى المشاهدين أن (يكتبوا إلى الرئيس ريغان، ويدعوا أعضاء الكونغريس إلى حث إسرائيل على مواصلة غزوها للبنان، إلى الحد الذي تراه إسرائيل ضروريا)، ورأى في عملية الغزو خدمة يؤدِّيها الجيش الإسرائيلي إلى الشعب اللبناني، (ديمر، الحلف الآثم ، ص 7).
وقد ظهر “القس بات روبرتسون” في 9 يونيو 1982، وفي أثناء حصار قوات الغزو الإسرائيلي لبيروت، في برنامجه (السبعمائة ناد)، وفسر المعركة الجارية في لبنان لأتباعه ومشاهديه، وبعد أن شرح لهم استراتيجية المعركة من وجهة نظر إسرائيلية.. قال بلغة الواثق وكأنه يعلم الغيب، وهو في الواقع ليس إلا دجال سياسي: “إنني أضمن لكم أنه بحلول خريف 1982، ستنزل ضربة القضاء على الدنيا..” ثم نظر إلى لوحة معلقة على الحائط أمام الكاميرا، وأشار إلى خريطة الشرق الأوسط وكرر كلاما من التوراة يتحدث عن تجمع يقوده ياجوج (وفسره على أنه الاتحاد السوفياتي) في أرض ماجوج (فلسطين) وستنضم إليه شعوب بيت جورما (أرمينيا) ويوت (أي ليبيا)، وروش (أي إثيوبيا)، وجومر (اليمن الديمقراطية)، وفارس (أي إيران)، وتحدث بعد ذلك عن دور الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها لإسرائيل، واستخدامها حق الفيتو في مجلس الأمن للحيلولة دون إدانة الغزو الإسرائيلي للبنان، وخلص إلى القول بحتمية المعركة النهائية، واشتعال المنطقة، باعتبار ذلك أحد معتقداته التوراتية بنهاية الأزمنة.
وفي نهاية البرنامج كرر ذلك القس طلبه إلى المشاهدين، ضرورة الإسراع للاتصال بالبيت الأبيض و”الكونغريس” والمطالبة باستمرار دعم الكيان الصهيوني وتأييد غزوه للبنان.

وهكذا يتضح لك أيها القارئ الكريم، إلى أي حد أضحى رجالات الكنيسة هم المحرك الأساسي للعداء الأمريكي الدائم لقضايا أمتنا العربية والإسلامية، ورغم ذلك لا أحد يتحدث أو يشير إلى أن هذا تطرفا دينيا نصرانيا، وإلى أن هذه قمة ثقافة الحقد والكراهية المنتجة بثياب رأسمالي -صليبي- سياسي يدعي أصحابها أنهم حراس “الحرية والديمقراطية” في العصر الحديث.
فنحن لا ندري أيهما يحكم ويوجه السياسة وقراراتها في البيت الأبيض، هل هم رجال السياسة الحزبيين أم هم سياسيون في ثياب قساوسة. وسنعرض في الحلقة القادمة إن شاء الله لنموذج أخر من هؤلاء القوم وهو القس “جيري فولويل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *