ماذا قال القرآن الكريم عن السنة (5):
يستمر حديثنا عن قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
عموم الآية للأحكام النبوية في حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلم:
ولا ينبغي أن يظن ظان أن هذا الأمر مقتصر على ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام خاصة في وقائع عينية وحوادث وقعت في زمانه صلى الله عليه وسلم؛ بل هو عام فيما كل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام من خلال سنته الثابتة.
قال جمال الدين القاسمي: “اعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن رواه جامعو الصحاح، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث، فهو مما تشمله هذه الآية. أعني قوله تعالى مِمَّا قَضَيْتَ فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرا وباطنا. وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله، بخلاف ظاهره، لتمذهب تقلّده وعصبية ربي عليها، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله- فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية. الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة”([1]).
نماذج من استدلال الأصوليين بهذه الآية على حجية السنة
قال الشافعي: “نزلت هذه الآية فيما بلغنا والله أعلم في رجل خاصَمَ الزُّبَيْر في أرضٍ فقضى النبي بها للزبير وهذا القضاء سنة من رسول الله لا حُكْمٌ منصوص في القُرَآن والقُرَآن يدل والله أعلم على ما وصفْتُ لأنه لو كان قضاءً بالقُرَآن كان حُكماً منصوصاً بكتاب الله وأشبَهَ أن يكونوا إذا لم يُسَلِّموا لحكم كتاب الله نصًّا غيرَ مُشْكِل الأمر أنَّهم ليسوا بِمُؤمنين إذا رَدُّوا حكمَ التنزيل إذا لم يسلموا له”([2]).
وقال ابن حزم: “هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيته عز وجل الواردة عليه فليفتش الإنسان نفسه فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خبر يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان أو قياسه واستحسانه وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم متى صاحت فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث”([3]).
وقال الغزالي بعد سياق هذه الآية وأيات أخرى: “فكل ذلك أمر بتصديقه، ونهي عن الشك في قوله، وأمر بالانقياد في الإتيان بما أوجبه”([4]).
وقال أبو شامة المقدسي: “فقد وضح ذَلِك من أَقْوَال الْأَئِمَّة إِنَّه مَتى جَاءَ حَدِيث ثَابت صَحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَاجِب الْمصير إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر مَا لم يُعَارضهُ دَلِيل آخر وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يسع أحد غَيره قَالَ الله عز وَجل {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فنفى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَان عَمَّن لم يحكم رَسُوله فِيمَا وَقع التَّنَازُع فِيهِ وَلم يستسلم لقضائه”([5]).
وقال ابن القيم: “فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده، وهو تحكيمه في حال حياته، وتحكيم سنته فقط بعد وفاته”([6]).
يتبع بحول الله
————————–
([1]) – محاسن التأويل (3/207).
([2]) – الرسالة: ص:83.
([3]) – الإحكام في أصول الأحكام (1/99).
([4]) – المستصفى: ص: 209.
([5]) – مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول. ص: 64.
([6]) – إعلام الموقعين (2/401).