هناك عوامل عدة متباينة تساهم في تطور أو تراجع حركة البحث العلمي في بلد ما من البلدان؛ فمن المجتمعات ما أزمتها بشرية ومنها ما أزمتها مالية، ومعظمها أصيبت بالأزمتين معا، والقصد من هذه الكلمات الإشارة إلى الأزمة البشرية التي تعاني منها مؤسساتنا الجامعية في مجال البحث العلمي؛ إذ المتأمل في كثير من كوادر هاته المؤسسات من حملة الألقاب الفخمة والضخمة يجدها أوصافا لا تطابق الموصوفات، وأسماء لا علاقة لها بالمسميات، وكوادر قلدت مناصب ليست لها أهلا بلا رعاية ولا عناية أو أمانة.
وأحيطت بها هالة من الأوصاف والألقاب العالية؛ تضخمها بطانتهم السيئة وأشقاءهم في الأمية؛ يتداولون تلك الألقاب بالتناوب والتداول بينهم زورا وبهتانا؛ فهذا أستاذ خاوي الوفاض فقير العلم مسكين المعرفة، ورغم ذلك نيط باسمه لقب ينادى به يتدلى كأنه وسام، يتبجح ويترنح به في مجالس العلم التي هو فيها دعي دخيل، ينتسب لأهل العلم بلقبه لا بعلمه، ويتبرم إن عقد مجلس علم ولم يدع له، وإن كان لا علاقة له به؛ يريد أن يشارك ويكون في كل شيء بلا شيء؛ موهما نفسه بعكس حقيقته، ينتفخ بلقبه عيانا بيانا، بلا حياء يحجز أو رادع يمنع، بكثرة جعجعة ولا طحين، معتبرا نفسه مصدرا ومرجعا غنيا، وغيره فقراء ببابه، وعالة على حاله، توهما منه وتخرصا؛ فيتعالى برأسه ويتشامخ؛ كالسنبلة الفارغة، ساخرا ممن حوله من أهل الثقافة والعلم الذين يفوقونه علما ومعرفة واطلاعا، وما هو في حقيقته إلا طويلب علم مبتدئ على مأدبتهم لو أنصف نفسه، وتجده يبث أحقاده فيهم بالتنكيل والتلميح متى أتيحت له الفرصة، وسنحت له المناسبة.
لكنه سرعان ما يخيب الظن به عند نطقه بكلمات يتكمكم بها ليوهم الناس أنه فلان ذو اللقب العالي، وبكمكمته يبين عن جهله؛ الذي لطالما غرر الناس بنقيضه، بأن له شأنا وسلطانا وهيلمانا، موهما السذج والمخدوعين بخيلاء لقبه وبعض أشياعه الذين ينافقونه من قليلي المعرفة وذوي الحاجات، باستوائه على كرسيه ومنصبه، سيما ذوي المصالح والأحداث الذين سرعان ما يقعوا في شرك الألفاظ التي تحمل تراثا من المهابة والتبجيل.
وهو المسكين مغرر به ومخدوع مفتون، خدعته نفسه بلقبه الجامعي الذي ينادى به في المحافل والمجالس، وبعضهم يغضب إن نودي باسمه مجردا، خدع به أتباعه فتبختر عليهم وسخرهم أذيالا يطبلون له ويزمرون. وليت هؤلاء الأشياع أحسنوا الاختيار في اتباع بعض أصحاب هاته الألقاب ممن لهم فضل يذكر ولا ينكر؛ فترديد مثل هاته الألقاب لمن ليس لها أهلا ترويج لأوهام ضارة وتثبيت لها بكثرة الاستعمال على من ليس لها أهلا، وليس له عند أهل العلم قيمة ولا وزنا.
وتنزيها للألقاب العلمية عن الامتهان والابتذال، ودعوة لإعادة النظر فيما يمنح من شواهد لمن أثبتت المواقف والاختبارات أنهم دخلاء على المجال، يجب إجراء مسح كامل؛ بالنظر في الملفات العلمية لهؤلاء، ووضع كل في مكانه اللائق به؛ مع جرم الاحتفاظ بلقبه.
فمثل هاته الأسماء الدخيلة على مجال البحث العلمي، تعرقل مسيرته وتعتبر عامل تحد في تطوره ونموه، وقد انتقلت هاته العدوى السلبية من العاجزين عن إنشاء البحوث العلمية إلى بعض ذوي المواهب الذي خلدوا معهم إلى الدعة والاستكانة، تأثرا بالجو العام المهيمن على المؤسسات.
وقد أسهم عدد كبير من الأساتذة في عدد من المؤسسات في أزمة البحث العلمي وجموده لتبوئهم وتبويئهم مناصب ليسوا أهلا لخوض غمارها؛ فتولوها وآثروا الصمت والسلامة والجمود…، بعضهم ولي قصدا وآخرون جهلا بحقيقتهم وثقة بشأن اللقب وكرامة من يفترض أن يحمله.
والواقع-مع الأسف-يثبت أن السلطة والهيلمان بجامعاتنا ليس للمنتج المبدع، بل لصاحب السلطان والنفوذ، وتمنينا لو أنه سلطان علمي؛ لكنه سلطان أشبه بالسلطة العسكرية في بعض الأنظمة؛ يعطى لذي القوة والنفوذ وأصحاب العلاقات الذين لهم (أعمدة وركائز) في مختلف المؤسسات والجهات.
ومن الوسائل التي يمكن أن تنتهج لإحياء موات هذا الصنف من الأساتذة اعتبار الإنتاجات العلمية أهم عامل من عوامل الترقية بغض النظر عن الأقدمية أو المدة الزمنية؛ وذلك على أساس أن يقدم الأستاذ عملا علميا في أي فترة أنجزه؛ وتقوم المؤسسة التي يشتغل بها بعرضه على لجنة علمية محكمة متخصصة تنشأ لذلك؛ وتراسل الجهات المختصة بشأنه؛ فتمنح للأستاذ الباحث ميزات على عمله الذي أنتجه، سواء أنتجه في سنة واحدة أو عشرات السنين، وذلك لدفع ذوي المواهب والقدرات وحثهم على الإبداع والإنتاج.
ولنا أن نقارن اليوم وننظر بين حال أساتذتنا وما هم فيه من نعيم وترف ورواتب سمينة لدى الكثير منهم، وبين حال السابقين من علمائنا ومقارنة الإنتاجات العلمية لهؤلاء وأولئك-والتي لا تحتاج إلى مقارنة أصلا- فعلى الرغم من النعم الوفيرة التي أغدقها الله على أساتذتنا من وسائل وإمكانيات؛ إلا أنهم يظلون كشارب ماء البحر لا يرتوي؛ دوما يتطلع نحو المزيد، لا من العلم ولكن من الكسب المادي والامتيازات السلطوية داخل المؤسسات الجامعية التي كان من المفروض أن لا تتسرب لها مثل هاته السلوكيات، وإذا أصبح هم الأستاذ الباحث المادة فأقم على البحث العلمي مأتما وعويلا.