شرع الله سبحانه لا يسلب الإنسان حريته، إنما يحرر كل «حرية» ممسوخة وينقيها ويجددها ويعيدها إلى صورتها الأصلية النقية بعد أن تراكمت عليها شوائب الأهواء وعوالق الأفهام السقيمة. يحررها من كل ذلك حتى تساير الفطرة النقية السوية فيذوق الإنسان طعم الحرية الحقة ويستشعر الطمأنينة والسعادة.
فما شقى الإنسان وركبتهُ العللُ النفسية المزمنة من قلق وتوتر واكتئاب ثم انتحار متعدد المظاهر والألوان؛ إلا بإعراضه عن شرع ربه، قال العليم الخبير «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى .وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا .قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» طه:121ـ124.
فمخالفة مقتضيات الفطرة إنما هو انتحار وهلاك… لذلك “جاءت أحكام شرعية كثيرة تأمر بالحفاظ على فطرة الإنسان على نحو ما خُلقت عليه من وضع، وتمنع أن يطالها التبديل.
ولعل أجمع ما جاء في ذلك قوله تعالى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الروم:30، فنفي التبديل لخلق الله أي الفطرة التي فطر الناس عليها هو نفي يحمل معنى النهي كما نبه إليه صاحب التحرير والتنوير في قوله: (جملة لا تبديل لخلق الله معترضة لإفادة النهي عن تغيير خلق الله فيما أودعه الفطرة، فتكون لا تبديل لخلق الله خبرا مستعملا في معنى النهي على وجه المبالغة كقوله: «لا تقتلون أنفسكم».
وقد جاء في الشريعة النهي عن تغيير خلق الله تعالى المقصود به الفطرة نهيا مطردا، يتناول أحيانا مبدأ التغيير من أساسه، ويتناول أحيانا أخرى مفردات التغيير في الخِلقة على وجه التفصيل.
ومما جاء عامَا في ذلك إضافة إلى الآية السالفة قوله تعالى: «ولآمرنَهم فليغيَرُنَ خلق الله» النساء:119، فقد جاءت الآية في ذم المشركين بما يقومون به من أعمال شركية من بينها تغيير خلق الله في الأنعام، وإذا كان هذا النهي مُشددا فيما يتعلق بالأنعام؛ فإنه يكون أكثر شدة فيما يتعلق بالإنسان(…).
ومما جاء من نهي مغلظ عن تغيير الفطرة قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله تعالى» البخاري:5931.
وقد قال القرطبي في شرح هذا النهي: (وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر، واتُلف في المعنى الذي نهى لأجلها، فقيل لأنها من باب التدليس، وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى كما قال ابن مسعود، وهو أصح) الجامع لأحكام القرآن، 5/392.
فهذه الأفعال إنما حُرمت بهذا النهي المشدد حفظا للفطرة الإنسانية في مظهرها الجسمي ليبقى كل ما خلقه الله تعالى على نحو ما خُلق عليه.
ومن هذا الباب أيضا ما جاء في الشريعة من نهي تشبه الرجال بالنساء، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «ليس منا من تشبَه بالرجال من النساء، ومن تشبه بالنساء من الرجال» أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وهذا التشبه المنهي عنه يشير إلى محاولة الانسلاخ من الأنوثة إلى الرجولة، أو من الرجولة إلى الأنوثة، ويشمل ذلك التشبه الجسمي، كما يشمل التشبه النفسي في العواطف والغرائز، لهذا الفعل مظاهر كثيرة في عصرنا الحاضر انتهت إلى الانسلاخ الكلي من جنس إلى آخر بالعمليات الجراحية، بل قد وصل إلى محاولة تبديل الخلقة الإنسانية بالاستنساخ البشري، وهو ما يدخل كله من باب أولى تحت المنع الشرعي حفظا للفطرة الإنسانية.